أتوا من فلسطين ومن أوروبا إلى برمانا، لكنهم ليسوا سياحاً. اجتمعوا لأمر واحد: تعزيز قدرات الأولاد في المجتمعات المهمشة. 10 أيام، مرت كأنها ساعات، بين «ضحك ولعب وجد وحب»، لكن خلال ذلك كان ملتقى «جنانا» يعمل على ما يهمله العرب أكثر فأكثر: العقل النقدي
برمانا ــ قاسم س. قاسم
«قرّب جرّب لعاب عنّا/ قرّب العب وفكّر»، صرخ الحارس ريّان، الآتي من رام الله بالحاضرين، داعياً إلى المشاركة في آخر عرض قدّمته «مجموعة التفكير» في ملتقى جنانا الصيفي، الذي أقامته «جمعية الجنى» في مدرسة برمانا العالية. وضع شباب المجموعة 3 طاولات في الملعب، وارتفعت أصواتهم «قرّب ع الطيّب بس بـ250» يصرخ ربيع ناصر ممازحاً. يلفتك الإقبال الكثيف على الألعاب، وخصوصاً أن الحاضرين يعرفون المدرب، وممثل جمعية «النيزك» الفلسطينية عارف الحسيني الذي آل على نفسه تهشيم كل «البديهيات» النمطية. فقد وعدهم منذ اليوم الأول بأنه «لن يعلّمهم شيئاً سوى اللعب»، انطلاقاً من قاعدة «لن تفكروا صح إلا لما تلعبوا صح» يقول. لكن، وعلى الرغم من بساطة الألعاب، إلا أن حلّها كان يتطلب وقتاً طويلاً للتفكير. أما السبب، فلأنه يجب على «اللعّيب» أن يفكر بطرق مغايرة للتي اعتادها والتي «شرّبونا ياها بالمدرسة» كما يقول الحسيني. هكذا شارف دور مجموعة التفكير في ختام الملتقى، أول من أمس، الذي استمر 10 أيام على الانتهاء. لكنّ العروض لم تقتصر عليهم، إذ أدى الشباب عروضاً راقصة ولوحات تعبيرية، كانت عبارة عن خلاصات لورش العمل التي شاركوا فيها، كتدوير النفايات الورقية، والعمل والدراسة للأولاد المضطرين إلى العمل إلخ...
وكانت برمانا قد استقبلت 120 شاباً وصبية في مدرسة برمانا العالية للمرة الثامنة على التوالي. أما الهدف من وجودهم، فهو اكتساب الخبرات من أجل تطوير العمل مع الأطفال في المخيمات الفلسطينية والمجتمعات المهمشة. أغلب المشاركين كانوا من مخيمات لبنان أو من الداخل الفلسطيني، وتحديداً من رام الله. كذلك كانت هناك مشاركة لممثّلين عن جمعيات أهلية لبنانية، مصرية، أردنية وبعض الناشطين الأجانب.
توزّع المشاركون منذ اليوم الأول على ورشات عمل عدة، انقسمت إلى دوامين قبل الظهر وبعده. جعل هذا التوزيع البعض يحتار أي ورشة يختار، وخصوصاً أن معظمها يفيد في عملية التواصل مع الأطفال مباشرة. وكانت ورشة العمل على «تطوير التفكير المنطقي والناقد عند الأطفال» التي أدارها الحسيني، من أبرز ورش الملتقى. فقد استمتع الذين اختاروها بـ«خفة ظل الأستاذ والطريقة السهلة في الشرح»، وخصوصاً «أنك مع عارف بتكتشف إنّك ما بتعرف تفكّر صح»، تقول ابنة رام الله سارة كحيل. استفادت كحيل من «خطة الطريق» التي وضعها الحسيني من أجل تنمية تفكير المرشدين خلال الأيام العشرة التي قضتها. وتقول إن «عارف أخبرني أنني ذكية من خلال حلّي للعبة بطريقة مغايرة»، ثم تضيف مبتسمة «لم أكن أعرف أنني ذكية».
ورشة الحسيني كانت نقلاً لتجربة جمعيته «النيزك» في القدس، التي تقوم على «ربط العلم باللعب»، كما يوضح الحسيني نفسه، عارضاً تجربة إحدى مدارس رام الله «حيث كانت هناك 40 حصة فراغ جرّاء غياب الأساتذة، فعرضنا على المدارس أن نموّلها بألعاب الأطفال مقابل السماح لمتطوّعي الجمعية بالدخول إلى صفوفها خلال هذه الحصص لإعطاء دروس في اللعب، وبذلك نعلمهم طريقة التفكير المنطقي والنقدي. وبالتالي يفكر الطفل في كل درس يأخذه، ولا يكون كل ما يسمعه مسلماً به». تلمع عينا الحسيني وهو يقول «وجدنا أن الأطفال بدأوا يحبون المجيء إلى المدرسة، وخصوصاً بعد أن وضعنا لهم في أروقة المدرسة مجسمات علمية تساعدهم في فهم دروسهم».
ويذكر الشاب المقدسي نفسه أن الشباب الذين انضموا إلى الجمعية سيذهبون هذا العام إلى القاهرة للمشاركة في نشاط «صنع في العالم العربي»، وخصوصاً بعدما قدموا «اختراعات صنعوها ضمن نشاط «صنع في فلسطين»، «في واحد عمل سلم كهربائي صغير للاستعمال المنزلي، لأن أمه لم تعد قادرة على صعود الدرج، وآخر عمل عود كهربائي..». ويشرح الرجل أن العمل على التفكير النقدي لم يكن للتلامذة فقط «إذ إننا درّبنا الأساتذة وكانوا هم أيضاً يلعبون بالأدوات العلمية التي وضعناها في المدرسة». أما عن طموح الجمعية فيقول الحسيني «نريد العمل على تطوير فكرة المعارض العلمية في فلسطين. بمعنى آخر، أن يأتي الأب مع أولاده إلى هذه المعارض لنشرح لهم النظريات العلمية من خلال الألعاب».
لم يكن الحسيني الوحيد الذي أتى من الداخل الفلسطيني إلى لبنان لنقل تجربة جمعيته إلى الشباب المشاركين في الملتقى. فقد أتت مجموعة «يراعات» من قبل مؤسسة «تامر» من رام الله والقدس من أجل نقل خبراتهم في مجال الكتابة والتعبير لشباب الملتقى. شارك أغلب أعضاء مجموعة يراعات في الملتقى، في ورشة عمل «التعبير الدرامي»، ليعودوا من بعدها إلى رام الله ليعلموا الأطفال «التعبير عن مشاعرهم النفسية عبر حركات الجسد». لكن، وعلى الرغم من جدية الملتقى في أغلب الأحيان، لم يمنع ذلك مجموعة يراعات من إخبار المشاركين في المخيم قصصاً عن رام الله والقدس والـ«كيبوتسات أو المستوطنات»، وخصوصاً أنهم من الضفة الغربية والقدس. هكذا، نقل شباب يراعات تجربتهم في الكتابة في ملحق «يراعات» الذي يصدر أسبوعياً مع جريدة «الأيام» الفلسطينية. يتحدث مديرالبرامج في مؤسسة تامر عبد السلام نخلة عن فكرة يراعات بأنها «كانت تهدف إلى تشجيع الشباب على القراءة والكتابة في المجتمع الفلسطيني، فبدأنا مع مجموعة من 26 شاباً وشابة لتدريبهم على الكتابة». ويضيف أن «التجربة كانت مفيدة للشباب، وخصوصاً أنها تفتح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم والتنفيس عن مكنوناتهم عبر الكتابة والرسم والشعر». هكذا تولّى ست شباب من مجموعة يراعات شرح كيف تبدأ رحلة إصدار ملحق، وكيف «نعمل على مناقشة كتاباتنا عندما يُعمل على تحرير المواد»، كما يقول رئيس المجموعة محمد حمدان. أما عن نقل التجربة إلى لبنان فيقول «إن مجموعة يراعات جديدة، نشأت في لبنان وسنظل على تواصل معها من أجل تبادل الأفكار والكتابات». ويضيف نخلة من جهته أن بعض أعضاء مجموعة يراعات أصبحوا «صحافيين، كذلك نشر البعض الآخر كتباً في الشعر والنثر».
أنهت مجموعتا «يراعات» و«نيزك» عملهما في المخيم، وحلّ يوم الوداع. فجأة، يبدو الانفعال والتأثر على الجميع. من سيجمع هذا الشتات مرة أخرى؟ لا شك في أن الأيام قادمة، ولكن.. في اللقاء الأخير، يروي حمدان «مغامرة» قام بها منذ فترة، رحلة سرية إلى القدس. كان الشاب منفعلاً، فانتقل تأثره إلى السامعين «أنا فتت على القدس مرة تهريب. لما شفت مسجد القبة بكيت. يا ريتكم بتقدروا تشوفوها بعيوني»، قال حمدان بصوت متهدّج، مضيفاً «كلكم حبيتوني أنا ورفقاتي لأننا من فلسطين، وما بنساش لما كنتو تقولوا بتشمّوا فينا ريحة فلسطين، يا ريتنا جبنا معنا شوية تراب لتشموا ريحة فلسطين، لكن..». يغصّ الشاب، ويغصّ الحاضرون بدموع لم يستطع بعضهم حبسها، فكرجت كأنها نوع من «جنريك» النهاية للملتقى.


اخترع أحد شباب جمعية النيزك لمعرض «صنع في فلسطين» أركيلة على الكهرباء! لكن، بسبب فشل هذا المشروع، قام في العام التالي باختراع عود كهربائي يشير إلى المبتدئين، عبر لمبات صغيرة، أين يجب أن تكون الإصبع وعلى أي وتر. شاب آخر اخترع للمعرض نفسه سلّماً كهربائياً صغيراً للاستخدام المنزلي. أما كيف أتته الفكرة؟ فلأنه «كان يرى أمه تطلع إلى المتخّت وتنزل عنه على الكرسي، فأحبّ أن يريحها».