غداً ينتخب الأفغان. كثرة المرشّحين لا يبدو أنها تؤثّر على الرئيس حميد قرضاي والمرشح ليصبح نائب رئيس محمد قاسم فهيم. الاثنان يضمنان الدخول إلى القصر الرئاسي، رغم التاريخ الملتبس الذي يحملانه
مي الصايغ

حميد قرضاي: صنيعة «الوميض الأبيض»


تختلف صورة الرئيس الأفغاني حميد قرضاي اليوم عمّا كانت عليه في عام 2001 في نظر الولايات المتحدة، التي جعلته نموذجاً للقيادة في عالم ما بعد 11 أيلول، وسعت إلى تسويقه وتعميمه على ما بقي من دول خرجت عن طاعتها ولقبتها بـ«المارقة». فقرضاي أمضى عمره في انتظار «الوميض الأبيض»، الذي أنار سماء كابول ليل السابع من تشرين الأول من عام 2001، معلناً بدء أولى حروب القرن. منذ هروبه من أفغانستان مع بدء الغزو السوفياتي في عام 1979، أبى الهجرة على غرار إخوته إلى الولايات المتحدة. وبقي في مدينة كويتا الباكستانية على الحدود مع أفغانستان، برفقة والده عبد الأحد قرضاي، النائب والوزير السابق في عهد الملك محمد ظاهر شاه. انتقل لفترة قصيرة إلى أميركا حيث درس القانون. وعمل في تسعينيات القرن الماضي مستشاراً لشركة «يونكال» النفطية التي كانت تبحث مدّ أنابيب في أفغانستان، وهي الشركة نفسها التي كان يعمل فيها السفير الأميركي السابق في أفغانستان، زلماي خليل زاد.
دعم قرضاي حركة «طالبان» سياسياً ومن ماله الخاص، كذلك سلمها كميات كبيرة من الأسلحة التي كانت بحوزته في بداية التسعينيات. والتقى مرات عدة بزعيمها الملا محمد عمر، الذي عرض عليه في عام 1995 أن يكون سفيراً للحركة لدى الأمم المتحدة. لكنه سرعان ما تخلى عن «طالبان»، بعدما بدأ يشتبه، بحسب قوله، «بأنها مخترقة من الأجانب، وخصوصاً العرب، وأنها رهينة للاستخبارات الباكستانية».
في عام 1998، بدأ قرضاي، من منزله في كويتا، ينظم معارضة لـ«طالبان»، حظيت بدعم بعض الباشتون الغاضبين من الحركة الإسلامية لعلاقتها بما اصطلح على تسميتهم «الأفغان العرب» وأسامة بن لادن، الذين كانوا يعدّونه الزعيم الفعلي للحركة.
لم يمض عام حتى اغتالت مجموعة يشتبه بأنها من «طالبان» أو من تنظيم «القاعدة» والده عبد الأحد، فقام على أثرها بجمع موكب من نحو 300 سيارة توجهت إلى قندهار، حيث دفن والده في مسقط رأسه، في تحدٍّ واضح لـ«طالبان». خطوة كرسته زعيماً بين قبائل الباشتون في جنوب أفغانستان. وخلف قرضاي والده بتزعم قبيلة بوبالضاي التي ينتمي إليها الملك ظاهر شاه.
وما كاد برجا مركز التجارة العالمي يهويان حتى بدأ قرضاي بجمع السلاح وتعبئة الرجال لدخول أفغانستان. لم يطل انتظار قرضاي كثيراً، حتى تعرضت أفغانستان لضربة متوقعة، كانت له بمثابة «فرصة العمر»، فاستنفر طاقاته وباشر الاتصال بالسفارتين الأميركية والبريطانية في باكستان، وعمل على تعبئة قبائل الباشتون ضد «طالبان».
تهاوت المدن الأفغانية واحدة تلو الأخرى أمام وطأة القصف الأميركي، فانكفأت «طالبان» إلى قندهار. تكثفت الاتصالات لإيجاد صيغة نظام ما بعد «طالبان»، وتداعت الفصائل الأفغانية في الداخل والخارج لعقد مؤتمر في بون في الأسبوع الأول من كانون الأول من عام 2001، برعاية دولية وإشراف أميركي، للخروج بتسوية تضمن توازناً عرقياً سياسياً، فكانت النتيجة إدارة انتقالية لمدة ستة أشهر هيمن عليها «تحالف الشمال» المكوّن من أقليات عرقية بزعامة قرضاي، الذي «توّج» زعيماً.
أعلن قرضاي عزمه على إعادة إعمار أفغانستان بعد عقود من حروب متواصلة لم تُبقِ حجراً على حجر. تعهد محاربة زعماء الحرب الأفغان فعمل على تدجينهم عبر إغرائهم بمنافع لم تستطع إلا اجتذاب زعيم الحرب الأوزبكي عبد الرشيد دوستم والطاجيكي إسماعيل خان وكريم خليل زعيم الهزارة. وعد بفرض الأمن في مختلف أنحاء البلاد، فعجز عن ذلك في مقر إقامته كابول.
مضت الأشهر الستة واستُدعي ممثلو القبائل لاجتماعات «لويا جيرغا»، أريد من خلالها انتخاب سلطة جديدة «بكل ديموقراطية» تقود البلاد إلى انتخابات مزمعة بعد 18 شهراً وتعد مسودة دستور للبلاد.
انتخبوا قرضاي رئيساً بعدما أزاحت الضغوط الأميركية ظاهر شاه وقائد التحالف الشمالي برهان الدين رباني من سباق الرئاسة. صدّقوا على تشكيلة الحكومة الجديدة التي أعدت في صفقات جانبية وعرضت جاهزة على «اللويا جيرغا».
ورغم سعيه الحثيث لضمان حصة «عادلة» للباشتون في التركيبة الجديدة، فشل في استرضاء الكثير من زعمائهم فتزايدت الهجمات على مواقع القوات الأفغانية والأميركية، حيث بدأت الفصائل غير الراضية في التعبير عن سخطها بلغة السلاح. خطأ حاول تلافيه خلال تأليف حكومتة الثانية، حين عمل قرضاي على تنظيف المجلس من أمراء الحرب واستبدل وزراء من التكنوقراط بهم، ما غيّر من ميزان القوى وجعله يميل باتجاه كفة الباشتون.
اليوم بعد 8 سنوات على الغزو الأميركي «لمقبرة الإمبراطوريات»، بات «البطل» نمراً من ورق. وأضحت واشنطن، التي تولت هندسة وصوله إلى السلطة عام 2001، تنعته بـ«الفاشل الذي يرقد فوق دولة مخدرات». وبدأت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بانتهاج سياسة مغايرة لسلفه جورج بوش، فحاولت إبقاء مسافة بينه وبين الرئيس الأفغاني، وبدت أقرب إلى دعم المرشحين أشرف غاني وعبد الله عبد الله. وعندما لم تتمكن من استبدال قرضاي، أبقت الخيار مفتوحاً للعمل معه، إذا ما أعيد انتخابه غداً.
انتخابياً، نجح قرضاي في تشتيت المعارضة الأفغانية، وكسب دعم زعماء الحرب من أصحاب السمعة المريبة، في مقابل تقديم وعود لهم بالحصول على مناصب بالعشرات من الوزارات والمحافظات.
وتعهد قرضاي إجراء مباحثات مكثفة مع حركة «طالبان» والجماعات المسلحة الأخرى، للوصول إلى اتفاق سلام. لكنّ الرئيس الأفغاني ليس في موقع قوة يمكّنه من التفاوض والحصول على مكاسب عبر فرض شروط توقف القتال الدائر. فالمعطيات تدل على أن قوة «طالبان» والجماعات الأخرى تزايدت رغم زيادة عدد جنود القوات الدولية.
واقع كرّس الرجل الذي يظهر دوماً بعباءته التقليدية المقصبة، حاكماً لكابول أكثر منه رئيساً لأفغانستان.

محمد قاسم فهيم: «بلدوزر» الأوقات الصعبة



في السياسة ليس هناك حليف أو عدو دائم، «فعدو الأمس، قد يصبح حليف اليوم»، وفق ما تفرضه مصالح اللاعبين. قاعدة لم يشذّ عنها الرئيس الأفغاني، الذي تحدى المجتمع الدولي باختيار فهيم، لمنصب نائب الرئيس

يعدّ محمد قاسم فهيم، أحد أقوى أمراء الحرب السابقين في أفغانستان، وهو يتمتع بشعبية ونفوذ، ويسيطر على ميليشيات. ورغم أنّه يُعَدّ شخصية معارضة بشدة للرئيس حميد قرضاي، إلا أن الأخير لم يجد بداً من التحالف معه لتقوية موقفه في الانتخابات الرئاسيّة.
العلاقة بين قرضاي وفهيم، حتى وقت قريب، كانت تتّخذ منحى الصراع على السلطة والنفوذ.
فعندما كان فهيم نائباً للرئيس الأفغاني ووزيراً للدفاع في الحكومة التي أعقبت الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، كانت دباباته تطل على كابول، وكان ينظر إليه من الكثيرين على أنه أكثر قوة من الرئيس الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة.
وعندما فاز قرضاي بانتخابات الرئاسة عام 2004، أقصى أمير الحرب الطاجيكي، فثار غضب فهيم بشدة، ما دفع الحكومات الغربية إلى الإعراب عن قلقها من احتمال إصدار فهيم أوامر لدباباته بالتحرك إلى شوارع كابول للاستيلاء على السلطة.
اليوم، يدافع قرضاي عن اختياره لفهيم، مشدداً على أنّ القائد الطاجيكي، الذي اتُّهم بارتكاب جرائم حرب والاتجار بالمخدرات، «يعرف كيف يوحّد البلاد»، ولا سيما أنه عضو في إثنية، تأتي في المرتبة الثانية من حيث العدد بعد الباشتون.
وقال قرضاي، في خطاب إلى «معهد بروكينغز»، «إنّ فهيم سيكون عنصر استقرار ووحدة للشعب الأفغاني، وإنه سيصبح نائباً للرئيس وبإمكانه الذهاب إلى أي ولاية في أفغانستان، وأن يقوم بعمله». وختم أنّ فهيم «رجل يمكنني الاعتماد عليه في الأوقات الصعبة».
تغييرات في موقف قرضاي، قابلها الجنرال الطاجيكي، الذي يلقب بـ«البولدوزر» لدوره في قيادة التحالف الشمالي، بإعلان انسحابه من «الجبهة الوطنية المتحدة» التي أُنشئت لمعارضة إدارة قرضاي، وانضمامه للترشح على بطاقة الرئيس الأفغاني في الانتخابات الرئاسية في 20 آب الجاري.
ويُعَدّ فهيم رجل روسيا المفضل في أفغانستان، وأحد أشد حلفاء إيران. ويشير العديد من منتقدي قرضاي إلى أنه رغم كون فهيم قائداً عسكريّاً في جماعة إسلامية، وعلاقته القوية بالمجاهدين وأحمد شاه مسعود، إلا أنه استخدم سياسة الباب المفتوح تجاه موسكو، والحزب الشيوعي في طاجيكستان، وتلقى تدريبه العسكري وراء كواليس وكالة الاستخبارات أيام الرئيس الأفغاني السابق محمد نجيب الله.
أسهمت أحداث عديدة في تكوين شخصية فهيم؛ فبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1978، تحول فهيم لاجئاً في بيشاور، ليعود بعد سنة إلى بلدته حيث انضم إلى أحمد شاه مسعود، وبدأ القتال ضد الاحتلال السوفياتي (1979ـــــ1989).
ويُنظر إلى فهيم باعتباره أحد القادة الأساسيين في الجماعات المسلحة الإسلامية التي انغمست في الحرب الأهلية الأفغانية (1992ـــــ1996)؛ فقد عُيّن في عام 1992 رئيساً لوكالة الاستخبارات الأفغانية، وانخرط في صراع التحالف الشمالي ضد حركة «طالبان» (1996ـــــ2001).
وما إن جاء 13 أيلول من عام 2001، حتى عُيِّن قائداً عسكرياً لتحالف الشمال، بعد 4 أيام على اغتيال أحمد شاه مسعود على يد تنظيم «القاعدة». ومع تغييب القائد التاريخي للمعارضة الأفغانية، كان واضحاً أن أيام تحالف الشمال باتت معدودة وانفراط عقده غدا محتماً.
غير أنّ الغزو الأميركي لأفغانستان في عام 2001، وقرار إدارة الرئيس جورج بوش الاستعانة بالجنرال كرأس حربة لتجنيب الجنود الأميركيين مخاطر المواجهة البرية، أعاد الحياة إلى عروق التحالف والوحدة إلى صفوفه والذخائر إلى مستودعاته.
مرت الأيام وواصلت القوات الأميركية مطاردتها لفلول «القاعدة» و«طالبان»، فخاضت معارك عدة معها، فيما كان فهيم يعزز من سلطته على كابول وعلى الإدارة الوليدة. لكنه ما لبث أن أدرك حجم القيود التي تفرضها عليه القوات الدولية، فطالب بخروجها وحال دون زيادة عديدها. وأجاد فهيم اللعب في «الوقت الضائع»، حين كان قرضاي يعمل جاهداً للحصول على الدعم الدولي لنظامه الجديد. وتولى حقيبة الدفاع في ظل الحكومة الانتقالية برئاسة قرضاي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية في تشرين الأول 2004. حينها تعرض قرضاي لضغوط من منظمات أجنبية رأت في فهيم عقبة أمام عملية نزع السلاح، على خلفية رفض الأخير نزع سلاح ميليشياته التي بلغ عددها 50 ألفاً. وفي عام 2005، أصدرت منظمة «هيومن رايتس واتش» تقريراً حمل عنوان «أيادٍ ملطخة بالدماء»، تحدث عن تورط فهيم في مقتل 800 من إثنية الهزارة الشيعية في عام 1992 في كابول.
سعى فهيم دائماً إلى إفهام قرضاي أنه السبب في توليه منصبه على رأس أفغانستان، لكونه يفرض سيطرته على مختلف الولايات الأفغانية غير الباشتونية، وتدخل في كل كبيرة وصغيرة، إلى حد بدا فيه قرضاي عاجزاً عن اتخاذ أي قرار من دون موافقة الجنرال، فعمل على سحب البساط من تحت قدميه عبر تسويات أبرمها مع القادة الميدانيين الأساسيين للتحالف، فزرع بذور شقاق ثانٍ في صفوفه وبدأ بتقليل اعتماده على فهيم، بالاستعانة بالأميركيين لحمايته، خشيةً من محاولة اغتياله ولكبح جماح «الجنرال» في الوقت عينه.
واليوم ترى الولايات المتحدة أنّ فهيم أقوى عسكرياً وسياسياً من الرئيس الأفغاني الحالي. وفي حال اغتيال قرضاي، فإنّ البلدوزر الأفغاني قد يصبح رئيساً مكانه، بحسب الدستور.