كان ميلاد منهمكاً برواية تفاصيل الأيام الأخيرة التي قضاها ممرّضاً في مخيم نهر البارد خلال الحرب، عندما دخلت انتصار لتخبره أنها ورفاقها باتوا جاهزين للعودة إلى المنزل. يبتسم لها ويخبرها أنه سيوافيهم بعد قليل، ثم يلتفت إلينا ضاحكاً: «لم يزوروا المركز منذ شهور. فهم منذ أقاموا في البراكسات صار المشوار صعباً عليهم، لذلك اصطحبتهم اليوم في سيارتي ووعدتهم بأن أوصلهم عندما ينتهون».نحن في مؤسسة الأطفال والشبيبة الفلسطينية، التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. قبل الحرب كان هذا المركز يقع في المخيم القديم، قريباً من بيوت معظم الأطفال الذين كبروا فيه. بعد الحرب انتقل المركز إلى المخيم الجديد، فصار يبعد عن منطقة البراكسات، حيث يقيم الأطفال، نحو نصف ساعة سيراً على الأقدام. «لا نستطيع أن نمشي كلّ هذا الوقت في الشمس» تقول انتصار.
الشمس القوية أمر باتوا يشعرون به منذ عامين فقط. قبل ذلك كانوا يقيمون في المخيم القديم الذي تحدّ طريقة بنائه من دخول الشمس إلى زواريبه الضيقة. أمر آخر يفتقدونه منذ «الحرب اللي صارت بين الجيش وفتح الإسلام»، كما تقول رغدة، هو البحر. فالمخيم القديم كان مطلاً على البحر. لكنه بات الآن محظوراً عليهم، إذ لا يمكن دخوله إلا بإذن خاص يختلف عن التصريح المعتمد لدخول المخيم الجديد، الذي عاد إليه 20 ألفاً من أصل 35 هم سكانه الأصليون.
لذلك كان وجود الأطفال السبعة، في غرفة المطالعة في المؤسسة، إنجازاً كبيراً يحققونه منذ شهور. ففي البراكسات لا يستطيعون اللعب «لأن الكلّ بيصير بدو يقاتل علينا». ويكبر شعورهم بالإنجاز، وخصوصاً بعد «معاناتهم» مع المدرسة التي اختلفت بدورها عما كانت عليه قبل الحرب. «كانت المدرسة باطون هلق صارت براكس حديد. منتزحلط ع الدرج نحن وطالعين ع الصف» تقول سناء. المشكلة الثانية التي واجهتهم كانت الضرب الذي بات يعتمده أساتذتهم للتعامل معهم. «ولا مرّة ضربوني بمدرسة الباطون، بس بهيدي المدرسة، الأستاذ صفقني بوكس ع وجي» يقول محمود (13 عاماً). هو يعرف ميلاد منذ كان في الثالثة من عمره «كنت ألعب وانبسط. بس هلق صرنا قاعدين ببناية ما منعرف حدا فيها». فقد استأجرت عائلة محمود شقة في بناية جديدة في المخيم. تعرّف إلى عدد من أولاد الجيران، لكن الأمر لم يعد كما في السابق «قبل كان الوضع أحلى، كان المركز قريباً جداً».
حلّها لهم ميلاد ذلك اليوم. استقبلهم في المركز وجعل مشوارهم إليه أشبه برحلة. فهم حين صعدوا في سيارته عائدين، أصروا على رفع صوت مسجّل الأغاني وراحوا يغنون ويصفقون بصوت مرتفع لم يخفت إلا مع وصولهم إلى أطلال البراكسات.
م.ز