محمد زبيب«الحدّة» التي تميّز مواقف النائب وليد جنبلاط غالباً ما تدفع إلى الحذر في التعامل معها لكونها مواقف حاسمة ونهائية. فهذا السياسي المخضرم، الذي يجيد اللعبة من داخل النظام الطائفي اللبناني وتوازناته ومركّباته، لا يعني دائماً ما يقوله، إلا في إطار ما ينوي توجيهه من رسائل باتجاه محدد وبمضمون قد لا يمتّ بصلة إلى الموقف المعلن نفسه. إلا أن اللافت في مواقف جنبلاط الأخيرة هو حرصه على التمايز في طريقة مقاربته لمفهوم الدولة ودورها الاقتصادي والاجتماعي ووظائفها في إعادة توزيع الدخل وتوفير الخدمة العامّة. ولعل موقفه أمس، في تكريم المدير العام للنقل المشترك وسكك الحديد رضوان بو نصر الدين لمناسبة إحالته على التقاعد، يندرج في هذا السياق، إذ أعلن أنه لن يشارك في أي وزارة ترد فيها كلمة عن الخصخصة!
لا يحمل الكثيرون هذا التهديد المباشر على محمل الجد، فالحزب التقدمي الاشتراكي سيتمثّل في الحكومة العتيدة مهما كان برنامجها، إلا أن بعض المقرّبين من جنبلاط يدعون إلى التمعّن جيّداً في هذا الموقف باعتباره يشير إلى الموقع الذي يريد جنبلاط أن يضع حزبه فيه، فهو، أي جنبلاط، سبق أن أعلن في مناسبات عدّة أنه سيتفرّغ بعد الانتخابات لإعادة «تجديد فكر الحزب وثوابته والعودة إلى تراث كمال جنبلاط في الدفاع عن الفلاحين والفقراء والعمال والطبقات الكادحة»، ويقول أحد مسؤولي الحزب إن جنبلاط لا يناور هذه المرّة، فهو بات يدرك أن قاعدته الحزبية مستاءة جدّاً من الصمت المفروض عليها إزاء السياسات الحكومية التي تتناقض مع وعيها وتربيتها، وهذا ما دفعه في أحد الاجتماعات مع مجموعة من الكوادر العمّالية والمهنية للقول: «نحن محكومون بالتحالف العريض مع قوى 14 آذار للنجاح في الانتخابات، لكننا بعد ذلك سنعود إلى نضالاتنا التي نسيناها في غمرة الأحداث وإن جاءت مواقفنا متعارضة مع مواقف حلفائنا».
لا يكفي توضيح كهذا لإزالة كل التساؤلات عن سر إطلاق جنبلاط موقفاً حادّاً ضد الخصخصة، ولا سيما أنه ربط مشاركته بالحكومة بنبذ الخيار شبه الوحيد الذي تروّج له معظم قوى الأكثرية النيابية، ولا سيما عمودها الرئيسي، تيار المستقبل. فالمعروف أن الأخير، وكان جنبلاط يشاركه في هذا الرأي، يصرّ على تنفيذ ما يسميه «برنامج باريس ـــــ3»، وهو برنامج يقوم على أربع ركائز رئيسية، هي: الخصخصة وزيادة الضرائب والرسوم وخفض الإنفاق والاقتراض من الخارج، وذلك بهدف الحدّ من تنامي المديونية العامّة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وما بقي من هذا البرنامج لا يعدو كونه شعارات ونصوصاً إنشائية لا تدخل في صلب «الموديل» المالي وأولوياته الواضحة جيّداً في تقارير المراقب الدولي، أو الوصي، المتمثّل بصندوق النقد، وبرنامجه الموقّع مع الحكومة تحت اسم «ايبكا»، والمرجّح أن يتحوّل إلى برنامج تقليدي خطير في ظلّ الحكومة المقبلة، بحسب ما تثبت الوثائق المتبادلة.
ما طالب به جنبلاط أمس يصيب رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بالصميم، فهو يشترط عليه أن يغيّر جلده، لا قناعاته فقط، وأن يعادي مصالحه ومصالح كل أولئك المحيطين به والمهللين لعظمته، الطامعين بالمزيد من المغانم والحصص والثروات السهلة على حساب الدولة وكل الناس، إذ كيف يمكن تصوّر حكومة تسيطر عليها هذه الأكثرية النيابية ويقودها الحريري نفسه وتحافظ على القطاع العام؟ إن تحقيق هذا الشرط يشبه عمليات تغيير الجنس، فهذه العمليات لا تحصل هكذا من دون شروط موضوعية.
أي مدى يمكن أن يبلغه جنبلاط في موقفه هذا؟ هل هو مستعد للذهاب إلى تحالف حقيقي مع قوى سياسية واجتماعية تساند مشروع «الدولة الحقيقية» لا «الدولة الشعار»؟ هل هو مستعد للوقوف ضد برنامج باريس ـــــ 3 وكل «البهلوانيات» وأعمال «الشعوذة» التي يرددها فؤاد السنيورة وسعد الحريري ورياض سلامة تحت تسميات «الهندسات» الضرورية للبقاء، ولو أدّت إلى توسيع رقعة الفقر والحرمان وزيادة حدّة استقطاب الثروة وتركيزها في أيدي قلّة قليلة؟ هل هو مستعد لتبنّي برنامج «يساري لبناني جدّي» بدلاً من خلق حركات يمينية تحت تسميات «اليسار الديموقراطي»؟ هل هو مستعد لدعم حركة نقابية مستقلّة بدلاً من دعم أطر بديلة لا تقلّ سوءاً عن الاتحاد العمالي العام؟
ما قاله جنبلاط أمس هو أبعد من موقف عابر ضد خصخصة بعض القطاعات، إذ قال إن الخصخصة كما يطرحها حلفاؤه تتناقض مع مشروع بناء الدولة، وهذا يعرّي الخطاب الذي أُغرق اللبنانيون به عشية الانتخابات.
والمفارقة أن مناسبة كل ذلك هو ما أعلنه الوزير غازي العريضي عن أن الرئيس فؤاد السنيورة أبقى خطة تطوير النقل العام في الدرج «لأن ثمة من يفكر بالخصخصة، علماً بأن النقل المشترك يتولى نقل 12 مليون راكب في السنة عبر 17 حافلة، وعلى الرغم من ذلك حقق نتائج مالية جيّدة!»... ويتطابق ذلك مع ما كان قد أعلنه الوزير آلان طابوريان عن أن السنيورة رفض عرض خطّته لتوفير الكهرباء على مدار ساعات اليوم في غضون سنتين «لأن هناك من يريد الاستثمار في هذا القطاع وجني الأرباح الطائلة»... ويتطابق أيضاً مع ما أعلنه الوزير جبران باسيل عن محاولات منعه من تطوير شبكات الخلوي وخفض الأكلاف، رغم أنّ هذا القطاع يدرّ مليار دولار سنوياً للخزينة العامّة!