دفعت الحاجة سكان غزة إلى اللجوء إلى باطن الأرض. بنوا أنفاقاً كلّفتهم تعباً وخوفاً ومجازفة ومالاً. وها هي وسيلة عيشهم هدفٌ لإسرائيل ومصر. هم لا يريدونها إذا فُكّ الحصار عنهم. هدفهم هو العيش فقط
غزة ــ قيس صفدي
يكافح محمد غريب وشركاؤه الخمسة من أجل استرداد أموالهم التي دفعوها لحفر نفق لتهريب البضائع أسفل الحدود الفلسطينية المصرية في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة.
دفع غريب وخمسة من أصدقائه مبلغ ستين آلاف دولار أميركي (دفع كل مشارك 10 آلاف) لحفر نفق في حي البرازيل الحدودي شرق المدينة، بحثاً عن مصدر دخل لأسرهم في ظل بطالة تجاوزت 70 في المئة في القطاع الساحلي الصغير، الخاضع لحصار خانق منذ حزيران 2007.
يقول غريب إنه «باع مجوهرات زوجته بنحو ثلاثة آلاف دولار، واستدان من زوج شقيقته سبعة آلاف أخرى، كي يشترك مع أصدقائه في حصة في نفق للتهريب». إذ فقد غريب عمله في قطاع البناء عقب سيطرة حركة «حماس» على غزة قبل نحو عامين، ومنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي توريد الخشب والإسمنت والحديد ومواد البناء الأخرى.
ويعتمد سكان غزة على الأنفاق للتزوّد بكثير من البضائع والمواد التي تمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخالها إلى غزة في ظل إغلاق المعابر والحصار المشدّد، ما جعل من هذه الأنفاق مجالاً مهماً لـ«الاستثمار» والكسب المادي.
إلا أن غريب وشركاءه يندبون حظهم العاثر جراء الحملة المصرية لمكافحة الأنفاق، التي اشتدت عقب انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة في 18 كانون الثاني الماضي، تخلّلها قصف إسرائيلي مكثّف استهدف منطقة الشريط الحدودي التي تنتشر فيها الأنفاق.
وقال غريب: «كنا على وشك الاحتفال بافتتاح النفق وبدء العمل فيه حين اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة». فدمرت الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر من 50 نفقاً خلال الحرب، بينها نفق غريب، الذي احتاج وشركاءه إلى نحو 10 آلاف دولار من أجل إعادة ترميمه، واستكمال حفره للوصول إلى الجانب المصري من الحدود.
ويواجه عمال وملّاك الأنفاق خطراً مزدوجاً هذه الأيام جراء تكثيف السلطات المصرية عمليات مكافحة الأنفاق، إضافةً إلى جانب الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة.
وتمكّن غريب وشركاؤه من استرداد جزء من رأس المال الذي دفعوه لحفر النفق عبر تهريب مجموعة من المواشي لمصلحة أحد التجار في غزة. وقال «نسابق الزمن من أجل استرداد أموالنا قبل تعرّض النفق للتدمير، سواء من المصريين أو من الاحتلال».
الخطر المحدق بأنفاق التهريب دفع مهربين فلسطينيين ومصريين إلى الاجتماع سراً في الشطر الفلسطيني من مدينة رفح، للبحث في مستقبل هذه الأنفاق وآليات تحصينها وتطوير عمليات التهريب رغم الواقع الجديد الذي فرضته الإجراءات المصرية والغارات الإسرائيلية.
وقال مهرّب حضر الاجتماع لـ«الأخبار» إن «مجموعة من المهرّبين المصريين حضروا إلى مدينة رفح عبر الأنفاق للبحث مع نظرائهم الفلسطينيين في الأوضاع الصعبة التي طرأت على عملهم، وخصوصاً عقب الحرب». ورغم رفضه الكشف عن تفاصيل ما دار في الاجتماع، فإنه قال إن «المجتمعين اتفقوا على أهمية العمل في الفترة المقبلة على زيادة أطوال الأنفاق والبحث عن منازل بعيدة نسبياً عن الحدود في الجانب المصري لإخراج فوهة النفق، وزيادة تأمينها ومنع اكتشافها من جانب الأمن المصري». وعلمت «الأخبار» من ملّاك أنفاق أن مصر «استبدلت ضباط وأفراد الأمن المكلفين حراسة الحدود في الفترة الأخيرة بآخرين من سكان القاهرة، بعد تنامي تلقي الضباط والجنود القدامى ـــــ وأغلبهم من سكان شمال سيناء ـــــ رشى من المهربين لغض الطرف عن عمليات التهريب عبر الأنفاق».
وفقد عشرات من صغار التجار مصادر أرزاقهم وأعمالهم التي ارتبطت بالتهريب عبر الأنفاق، وبات المواطن الفلسطيني في غزة يواجه صعوبة كبيرة في الحصول على كثير من البضائع المهرّبة التي مثّلت بديلاً عن البضائع الممنوعة من جانب سلطات الاحتلال.
وتكفي زيارة واحدة لسوق «النجمة» وسط مدينة رفح، التي نشأت حديثاً واقترنت بالأنفاق، وكانت تعج بعشرات أصناف البضائع المصرية، لإدراك التدهور الذي لحق بتجارة الأنفاق، وانعكاسها على هذه السوق التي باتت «شبه خاوية» إلا من بضائع قديمة. ويقدّر العارفون بتجارة الأنفاق حجم عمليات التهريب بأكثر من 20 مليون دولار أميركي شهرياً قبل الهجمة المصرية الإسرائيلية الأخيرة.
ويربط مهربو الأنفاق مستقبلها برفع الحصار. وقالوا: «إذا زال الحصار وتوافرت فرص عمل فستنتهي ظاهرة الأنفاق من دون قصف إسرائيلي وحملات أمنية مصرية».