strong>وائل عبد الفتاحمصر دائماً على الحافة، من السياسة إلى الرياضة. الحافة أدت إلى خسائر لأنظمة، باستثناء نظام حسني مبارك، فقد حقق معجزة استمراره بالقدرة على دفع البلد كله من الحافات إلى قلب بحر الرمال

■البحث عن شركاء


«لما أحب أكلم شعب مصر أكلم مين». ضحك الخبير في كواليس السياسة وهو يتقمّص دور المسؤول الأميركي، الذي سأل السؤال منذ سنوات لعدد من الأسماء الفاعلة في المجتمع المدني. كان هذا قبل رحيل جورج بوش بفترة. والسؤال يعبّر عن قلق من يوم الغياب المفاجئ للرئيس حسني مبارك.
يومها لم تخرج إجابة كاملة مقنعة. الإجابات مختصرة. حماسية. جاهزة. وساذجة أحياناً. تحدّث ضيوف الأميركي عن بديل متوقع (الجيش) وآخر منطقي (التسلسل الدستوري) ومراهق (القضاة). كانت يومها «كفاية» في بداية أفولها الطويل. لم يذكرها أحد. لكن هناك من لم يحرم الأميركي نبرة حماسة اختارت (تحالف القوى الوطنية) لترشّحه بديلاً يحرك العواطف الشعبية النائمة في يأس غامق. بوش كان مشغولاً بالبحث عن بديل. واعتمد أسلوب الضغط العنيف على النظام، وجرّب تدعيم بعض «البدائل» بشكل سافر أحياناً. الضغط تولّد عنه غضب وانفعال وعلاقات قلقة بين القاهرة وواشنطن. وتوترات فتحت المجال قليلاً. وأجبرت النظام على فك قبضته إلى حد يسمح بظهور صحف مستقلة وحركات احتجاج، ويسمح بنقد وشتيمة، سمعها الرئيس بنفسه من نافذة حجرة مكتبه في قصر العروبة.
مرحلة بوش انتهت من دون تغييرات كبيرة، فقد استوعب نظام مبارك الضغوط بمرونة بالغة وبتغيير أسلوبه من المواجهة المباشرة مع المعارضة بالمنع والمطاردة والإلغاء، إلى أسلوب الرمال المتحركة. امتصّ نظام مبارك معارضته. وأغرقها في بحر رمال كبير، لتتوه بمجرد محاولة الخروج من لزوجة بحر الرمال.
الآن النظام في وضع أكثر راحة مع مرحلة أوباما. أوباما أسلوبه مختلف تماماً، يضع الأنظمة المتحالفة معه في إطار واسع يستوعبها بأسلوب مختلف لا ضغط فيه. يفحص الملفات بهدوء أكثر، وينصح فقط للحفاظ على التوازن المطلوب. مصر بالنسبة إلى أميركا هي رمّانة ميزان تضمن سلامة الجيران (إسرائيل) والاعتدال في إدارة ملفات خطيرة (فلسطين أولاً... والسودان أحياناً)، وضمان توازن استراتيجي مع قوى صاعدة (إيران). كما أنها قيادة المنطقة بالتاريخ وعناصر القوة (حتى لو كانت معطّلة)، ورغم أنها أصبحت في النظرة العامة تابعة لدول المال (السعودية والخليج)، إلا أن قيادتها السياسية (منذ عبد الناصر) لا يزال لها دور وبريق.
من هنا أهمية الحفاظ على التوازن في مصر. والتوازن يحتاج إلى قوة كبيرة، وخصوصاً في مرحلة قلق الخلافة التي تعيشها مصر. ولأن نظام مبارك روّض الجميع بالرمال المتحركة في استعراض حوّل فيه المرشحين المحتملين لمنافسته، إما إلى معارضة أليفة (من الوفد إلى التجمع مروراً بالناصريين)، أو إلى معارضة مشاغبة غير مستقرة (الإخوان المسلمين بشكل كبير و«الغد» بشكل أقل).
معركة النظام مع المشاغبين اتخذت شكلاً مختلفاً مع أوباما، الذي سيترك الخيار للنظام في توسيع مجال الديموقراطية والحريات. وهنا سيتاح للنظام ترتيب الخريطة السياسية من جديد.
هذا ما يفسر الضربات القوية للإخوان المسلمين قبل شهور من انتخابات مجلس الشعب، وهي ضربات يبرّرها النظام للمهتمين في البيت الأبيض بأنها دفاع عن الدولة المدنية في مواجهة المد الأصولي، الذي لم يقدّم بديلاً سياسيّاً، لكنه قدم تشويشاً وإزعاجاً للنظام.
أداء الإخوان أقرب إلى شريك مزعج فرضته الظروف الدولية، التي يتحرّر منها النظام مع وصول أوباما، الذي سيترك للنظام اختيار شريك غير مزعج.
وهذا ما يمكن أن يفتح الباب أمام حزب الليبرالية القديمة (الوفد)، وربما (الجبهة الديموقراطية) وهي ليبرالية منشقّة عن حزب السلطة تقريباً كشريكين في مجلس شعب مقبل بانتخابات لا يحتاج فيها إلى عملية تزوير فاضحة بعد ضرب العناصر النشيطة في «الإخوان».
«ضربة الإخوان» لم يكن لها صدى شعبيّ. فـ«اللّاوعي السياسي» تغيّر، بعدما صُدم بأداء الإخوان ومعه أداء «حماس» في السلطة أولاً، ثم في مواجهة منفردة مع العنجهية الإسرائيلية. في هذه المواجهات كلّها (الإخوان في المجلس وحماس في واجهة التحرر الفلسطيني)، خروج أول لتيار الإخوان المسلمين من خندق المعارضة إلى منصة قريبة من السلطة البديلة. خروج غير مكتمل. لكنه تمرين على الحكم خابت فيه التوقعات.
لا يزال تسرّب الرصيد الشعبي في منطقة لاوعي سياسي، لكن المناطق الحيوية من نظام عتيق مثل نظام مبارك ستستفيد منه إلى درجة لافتة. وستلعب عليه ليتجسّد في تشكيلات سياسية تهدف إلى انتقال السلطة الهادئ بعد أن يكون النظام قد استعاد الأرض التي استولى عليها «الإخوان». مصر على أعتاب مرحلة جديدة. النظام يؤدّي فيها دوراً يُعاد فيه تنظيم القوى السياسية، وترتيبها على تخوم الرمال المتحركة.

■تجاور الذعر والأمان


القتلى أنواع. رسائل الذعر انتشرت بين الجيران. الأمهات حذّرن: لا تفتحوا للغرباء. أعيدوا الأساليب القديمة. لا تمنحوا حبل الأمان للغرببرامج التوك شو تصرخ في استعراضية: ماذا حدث للمصريين؟ كيف يقتل الرجل عائلته؟ والأم وبناتها رجل البيت؟ والشاب يحرق قلب خاله بقتل طفليه؟ القتل العنيف. المجاني. على أقل سبب. والقتلة هواة. أقارب. خدم. أهل ثقة. ماذا حدث؟ المعارضة قالت: الحكومة وخطاياها. الأمن قال: المجتمع يتوحّش. المجتمع مذعور.
الجدة مالت على ابنها الأربعيني: الدنيا غاب منها الأمان. ابتسم الابن ولم يقنعها بأن لا شيء تغير. وأن الجرائم لم ترتفع معدّلاتها، لكن ارتفعت فقط درجة الاهتمام الإعلامي بعد ظهور القنوات الخاصة، وولعها بالغريب والمدهش.
تبدو فكرة الأربعيني لها منطق عقلاني. لكن ما يحدث في مصر، وعلى مستوى علامات الذعر والأمان لا تخضع لهذه العقلانية بحذافيرها.
ورغم كل هذا الشعور بالخوف من جرائم العنف غير المسبوقة، هناك شعور مستمر بالأمان في الشوارع. يتجاور الذعر والأمان. وهي حالة مصرية تبدو فيها السيطرة على كل شيء في اللحظة التي تقترب فيها من الانفلات الكامل.
الانضباط والفوضى في خلطة تخلق نوعاً خاصاً من التوتر «المصري»، كما سخر طبيب نفسي وهو يتابع حالات تنقّل المصريين من الساخن إلى البارد، وتفكّك أي موقف أو فكرة قابلة للتكوّن. الانتقال بين النقيضين يفكّك الكيانات المتماسكة، ويغرق المجتمع في حالة سيولة دائمة.
وفي مثل هذا التجاور، تعاد المسرحيّات. تدخل الرئيس في موعده تماماً. ورفع العلاوة السنوية 10 في المئة. ولم يكن خافياً على أحدث المتابعين لدراما النظام التوقّع بأن الرئيس سيتدخل في آخر لحظة، «فالرئيس يحب الشعب أكثر من الحكومة».
ورغم أن المسرحية معادة فإنها أثارت دهشة القطاعات العريضة التي ليس لديها سوى انتظار عطف الرئيس ومحبته وقدرته على انتزاع الـ2 في المئة الإضافيّة من الحكومة.
لو كانت الأموال موجودة من البداية لماذا كل هذه المسرحية؟ وإذا لم تكن موجودة فمن سيدفع ثمنها، وكيف ستتدبّرها الحكومة؟ مثل الأبطال الشعبيين، تصوّر الصحف الحكومية الرئيس. وكادت أن ترسمه ببزّات الحرب يحمل سيفاً ورمحاً، ويمتطي جواداً. وينظر نظرة شجاعة وتحدٍّ إلى الأعداء.
ما هي الحكمة من هذه المسرحية؟ هل استجداء شعبية للرئيس؟ أم تأكيد أن دولة المؤسسات خرافة، وأنها دولة الرئيس وحده، يستطيع أن يضرب الميزانية ويتجاوز المسؤولين ويفعل ما يريد.
هذه الدولة التي تعتمد على حكمة وتوجيهات وتعليمات الرئيس. وهو نموذج دولة قديمة، الرئيس فيها نصف إله أو مثل فرعون فوق القانون والمؤسسات، نموذج يجعل من الرئيس هو كل شيء في الدولة. تحيا الدولة معه وتموت معه.

■مفاجآت الطريق الوعرةقالت لأصدقاء عن يوم النحس، الذي وصلت فيه إلى القناة التي تدير ساعات الهواء فيها، لتجد القرار: «برامج اليوم ألغيت وسيُبث القرآن فقط». القرار جديد على هذه القنوات. والحدث جعلها تحتل موقعاً جديداً في علاقة الإعلام والسلطة.
لم يكن من الممكن أن تعلن أجهزة التلفزيون الرسمية الحداد على حفيد الرئيس. التلفزيون الرسمي مال عام، وإعلان الحداد يتعلق بقرار سياسي لا يحدث إلا مع شخصيات كبيرة في الداخل أو الخارج. وهنا كان لا بد من اكتشاف شاشات مستقلة يملكها رجال أعمال. وحدادها يتعلق بمال خاص لن ينال توبيخاً على إلغاء البرامج بسبب الحفيد. المناسبة طبعاً مربكة. الحادث يثير الخوف الطبيعي من فكرة خطف الصبا. الموت خطف صبياً يبدأ أولى انعطافات الحياة. لكن الصبي حفيد الرئيس. هنا يتصارع الحزن مع النفاق. وصدمة الخطف المفاجئ للصبا مع الاستخدام السياسي للحدث.
هكذا ظهرت الحاجة إلى الشاشات الجديدة، التي أعطت مساحة مناورة أوسع. وفي الوقت نفسه كشفت حقيقة معروفة مسبّقاً، وهي أن رجال الأعمال امتداد للنظام. هكذا مُرّرت فكرة أوسع في تعبيرات جديدة من نوع «البيت الرئاسي»، وهي صياغة متردّدة لمفهوم «العائلة الحاكمة».
شاشات رجال الأعمال كانت حلاً سحرياً، وتأكيداً على «امتداد» حدود الدولة القديمة إلى مساحات غير مألوفة، وإن كانت متوقعة، ومنها تتسرّب مفاهيم تتعلق بالنظرة إلى الحكم.
أصحاب الثروات هم أسرى عطف النظام. غالبيتهم ليسوا رأسماليّين حقيقيين، بل أغنياء حرب. تكوّنت ثرواتهم عبر فساد النظام ومن بين ثُغره. لهذا يهمّهم النظام واستمراره. هم رجال اختارهم النظام ليؤدّوا دور رجال أعمال. وهم لم يتجاوزوا هذه المساحة. ظلّوا أسرى المنح والعطايا، وشاركوا في الحكم ليس دفاعاً عن مصلحة خاصة، بل كجيش دفاع عن «ولي النعم».
هذه العلاقة ليست عقلانية. تضع الرئيس في موقع مقدّس. ليس بالمعنى السياسي، ولكن كمفتاح الكنز للفئة المختارة. وهي فئة لا تفكر بعقلانية. لكنها تعيش تحت سحر مانح العطايا الخالد في كرسيّه.
المانح يغضب أحياناً، هكذا يرى الأذكياء في تراجيديا هشام طلعت مصطفى، الذي فاحت رائحته، فكان لا بد من رفع الحماية عنه. غضب المانح مقدّس. يترك المتهور لمصيره عقاباً على خروج غريزته عن الحد المسموح به. مصير تفترسه كائنات جائعة للانتقام من أصحاب الياقات البيضاء.
وبين الحزن والغضب يعيش «رجال الأعمال» منعطفاً يقود مستقبلهم السياسي إلى مفاجآت الطريق الوعرة. وبين الشاشات وحبل المشنقة يبدو وضع رجال الأعمال مؤشراً إلى طبيعة النظام المقبل في مصر.