المعارضة التقليديّة تُضعف الإضراب و«الثوار» يفتقدون حيويتهموائل عبد الفتاح
بينما كانت سيارات الأمن المركزي تتحرك بتكاسل ملحوظ لتحتل مواقع هامة من قلب القاهرة، بثت أكثر من جهة في النظام رسائل دعائية لتعطي عملية «إجهاض» إضراب ٦ نيسان بعداً أكبر من ضراوة الحل الأمني.
الأمن لم يبذل جهداً استثنائياً. خطته تقليدية هدفها إحكام السيطرة على العاصمة وإثارة الرعب. رسائل على أجهزة الخلوي، القبض على الفتيات بصورة خاصة. الضرب العنيف لمن يتحدّى أوامر التوقف عن التظاهر. وقبلها، تحذيرات مباشرة لمفاتيح سياسية بعينها كما حدث حين اتصلت الأجهزة الأمنية بنائب مرشد الإخوان المسلمين، محمد حبيب، وأبلغته بـ«الخط الأحمر»: «لا تتجاوز أي تظاهرة ثلاثة آلاف شخص».
فلتان الأمن هو حصار إضافي لحركة بدت مرتبكة بين أجنحتها الشابة غير المدربة والبعيدة عن خبرة بناء التنظيم السياسي. قادت الدعوة حركة سميت باسم يوم الإضراب «٦ نيسان». تكونت في الاحتجاج ولم تمتلك أدوات وجهازاً سياسياً ينقلها من عالم الثورة الافتراضية إلى «العمل الجماهيري» كما تطلق عليه التنظيمات التقليدية، أو الخروج إلى «الشارع كما توصف عادة خطوات الخروج من الحلقات الضيقة إلى العمل على الأرض».
الأرض والشارع والجماهير كانت غائبة أول من أمس. حضرت فقط رغبة شباب «٦ نيسان» في الهروب من مصير هوجات غضب اللحظة. رغبة في مواجهة حركة معارضة مدجنة وعجوز تحكمها صفقات مع النظام حولت مقارّ الأحزاب إلى «دكاكين سياسية» تبيع بضاعة راكدة.
نزعة الشباب كانت باتجاه بناء «حركة» تعتمد أساساً على مشاعر الفخر بما حدث العام الماضي، وهي أقوى هبّات الغضب الجماعية على نظام الرئيس حسني مبارك.
الفخر لم يكن وحده موجوداً، بل كانت الأشواق إلى تنظيم فوضى الغضب ونقلها من تعبير فردي على الإنترنت إلى كيان له جهاز سياسي وبرنامج واضح. وهنا وقفت الحركة في منتصف المسافة، لا بل نجحت في تكوين جهاز سياسي واستمرت في حضورها الافتراضي جاذبة الآلاف من الداخلين إلى مسرح الشأن العام.
النجاح الكامل كان في إعلان أبوة لإضراب نيسان الماضي، ما استفز قوى من المعارضة التقليدية التي شاركت في أبوة نيسان الجديد. شراكة أو رغبة في عدم تكرار تفويت الفرصة، حين كان ٦ نيسان الماضي وليداً غامضاً كتبت شهادة ميلاده على أيدي «ثوار افتراضيين» عمّدوا سياسياً باعتقالات أخرجتهم من غرف التدوين والتواصل عبر «الفايس بوك» إلى مطاردات أمن الدولة وسيارات الاحتجاز السريع وقرارات الاعتقال المفتوحة الزمن.
نجح نيسان الماضي بسبب شرارة المفاجأة وطزاجة الفكرة وغموضها. وهي أسباب افتقدها نيسان الحالي، يضاف إلى ذلك ثقل حضور القوى التقليدية من جماعة الإخوان المسلمين إلى أحزاب المعارضة بجديدها (الغد والجبهة الديموقراطية)، وقديمها مثل التجمع (اليساري) الذي أعلن مشاركته في اللحظة الأخيرة.
مشاركات خافت من نجاح الإضراب فتركته رهن مراهقة الافتراضيين وعدم خبرتهم في الفروق الضيقة بين أدوات الاحتجاج، بين الإضراب والتظاهرة، العصيان المدني والفوضى الغوغائية.
تنبهت أجهزة النظام أيضاً إلى أن بيان وزارة الداخلية أثار الذعر بين الناس. صمتت الأجهزة هذا العام وهونت من الحدث. بدت متراخية ظاهرياً، لكنها تحسبت للمفاجآت فأخرجت من جعبتها أساليب قديمة، بدءاً من فتاوى الجناح الديني (الأزهر والصوفية) وتحليلات الجناح السياسي (الإضراب لا يعيد الحقوق)، مروراً بإقامة حفلات مشاهير المغنين في الوقت نفسه، وصولاً إلى شحن تظاهرات ضد البهائيين في الصعيد. أساليب قديمة خرجت من المخازن لتضرب «الإضراب» الذي لم يكن من الممكن توصيفه سياسياً.
بدت القاهرة كأنها تهجئ أساليب العمل السياسي، رغم أن تاريخ خبراتها السياسية منذ ثورة ١٩١٩ حتى ١٨ و١٩ كانون الثاني من عام ١٩٧٧ حافل ومتنوع. كذلك واجه كل أشكال تعسف السلطة من الاحتلال إلى شرطة أنظمة ما بعد تموز عام ١٩٥٢.
السياسة في مصر بلا تاريخ، رغم أن هذه تعد إشارات إلى عدم استسلام الجسد للخمول والركود. إشارات للحيوية من دون حيوية فعلية، ورغبة في التخلص من ميراث طويل من دون خطة. هذه إيجابيات أدت إلى نوع غريب من الإحباط يجمع بين صدمة الفشل المتوقع وإنكار الحدث من أساسه.
نامت القاهرة طبيعياً، كأن الإضراب لم يفشل أو لم يحدث من الأساس. وغالباً ستشتعل مجدداً الرغبة في البحث عن شكل جديد للحيوية. استهلكت سريعاً خبرات نيسان. وتحركت أوراقها وثمارها باتجاه شيء مختلف، مفاجئ، لا يمكن التنبؤ بملامحه ولا مساراته. «استهلاك سياسي» لأشكال تُجرَّبُ سريعاً ويُمل منها أسرع من عبور رسالة في حزمة إلكترونية.