غسان ديبةبعد اجتماعه الأخير مع غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما للصحافيين، إنه وبراون «يؤمنان بالأسواق الحرة» على الرغم من كل شيء، وهما يدركان وجود حاجة إلى تنظيم هذه الأسواق «حتى لا تخرج عن السيطرة من وقت لآخر»!
بدا أوباما متردداً في الكلام، على غير صورته التي عهدها الناس في حملته الانتخابية تحت شعار «التغيير»، والتي حملت الأميركيين المستائين من حكم جورج بوش في الأعوام الثمانية الماضية (بل ربما من حكم اليمين الأميركي بتلاوينه الجمهورية والديموقراطية على مدى ثلاثين عاماً)، الى إحداث كسر تاريخي عبر إيصاله إلى البيت الأبيض متطلّعين إلى تغيير فعلي في جميع مجالات الحياة الأميركية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالأميركيين يرزحون تحت ثقل كبير، إذ إن أكثر من 500000 أميركي يفقدون وظائفهم شهرياً، وهناك 15% مهدّدون بفقدان منازلهم (الوضع الذي شبهه أحدهم باحتراق منزل من كل عشرة منازل في كل حي في الولايات المتحدة وما يعنيه هذا من كارثة اجتماعية)، وبدأت مدن الخيم في الولايات المتحدة المختلفة تعج بساكنيها من العمال الذين فقدوا وظائفهم، كما يتهدّد معظم الأميركيين عدم مقدرتهم على الطبابة وعلى تعليم أبنائهم في الجامعات بعدما فقد الكثيرون مدّخراتهم في أكبر تدمير للثروة الفردية في التاريخ الأميركي.
يحدث كل هذا وأوباما وفريقه الاقتصادي يتخبّطون في سياستهم الاقتصادية الإنقاذية المعتمدة على رافعتين أساسيتين: الأولى، سياسة إنقاذ المصارف والمؤسسات المالية المتعثرة عبر ضخ الأموال الحكومية فيها، والثانية من خلال برنامج الإنفاق الحكومي الذي أقر أخيراً في الكونغرس، وتبلغ الأموال التي ستضخّ عبر هذين البرنامجين حوالى 1،5 تريليون دولار. لكن على الرغم من وجود البرنامجين المذكورين، والأموال التي تبدو طائلة للوهلة الأولى، فإن سياسة أوباما مهددة بالفشل بسبب طبيعة برنامج الإنقاذ، وعدم كفاية برنامج الإنفاق الحكومي. فبرنامج إنقاذ المصارف والمؤسسات المالية، الذي جرت هندسته في أواخر أيام عهد بوش على يد وزير الخزانة الأسبق هنري بولسون، اصطدم بعوائق كثيرة أهمها: عدم مقدرة البرنامج على تسعير الأصول الهالكة التي تملكها هذه المؤسسات، وبالتالي حدوث تباطؤ كبير في عمليات الشراء هذه في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة انهيار هذا القطاع، ولا سيما مع وصول «مجموعة سيتي» و «بنك أوف أميركا» إلى الخط الأحمر، وتسجيل شركة «AIG» خسارة بقيمة 60 مليار دولار إضافية بعدما كلفت الخزينة عشرات المليارات (150 مليار دولار)، وبالتالي أصبح البرنامج يضخ أموالاً عامة إلى هذه المؤسسات، وفي كثير من الأحيان تتّجه هذه الأموال إلى تعبئة جيوب المضاربين الذين يستفيدون من عدم انهيارها لحملهم أدوات مالية تسجل أرباحاً عند بقاء المؤسسات عائمة.
ويتمسك أوباما وإدارته بهذه السياسة على الرغم من عدم فعاليتها في حل الأزمة وتحويلها أموالاً طائلة عبر القطاع المالي من دافعي الضرائب إلى مالكي أسهم وسندات ومضاربين وأصحاب شركات.
ويأمل الفريق الاقتصادي لأوباما، المكوّن من سامرز وغيتنر وبرنانكي، أن تنجح هذه السياسة في إنقاذ القطاع المالي الأميركي، وترتعد فرائصهم من البدائل، وأولها ترك المصارف والمؤسسات المالية تعلن إفلاسها كما ينادي المؤمنون الحقيقيون بالأسواق الحرة وبعض الشعبويين الذين يسعون إلى الانتقام من جشع المديرين التنفيذيين للمؤسسات المالية في WallStreet الذين جنوا أكثر من 40 إلى 50 مليار دولار من العلاوات فقط في السنوات العشر الماضية، وثانيها «التأميم» الذي يبدو الحل الوحيد القادر على إنقاذ قطاع التسليف في الولايات المتحدة، وهذا الحل رفضه غايتنر وبرنانكي الأسبوع الماضي في انعكاس واضح لـ«الوسطية» التي يتّبعها أوباما في سياساته، والتي أصبحت تقليداً عند الديموقراطيين منذ عهد بيل كلينتون، وذلك للحفاظ على السلطة بدل استعمال السلطة للتغيير، وقد شاركتهم في هذه السياسة الأحزاب الديموقراطية ـــ الاجتماعية وأصحاب «الطريق الثالث» في أوروبا لفترة طويلة.
هذه الوسطية ستؤدي إلى فشل ذريع لإدارة أوباما، فالرأسمالية الأميركية تتطلب حلولاً جذرية، ومنها التأميم في القطاع المصرفي الذي يحل مشكلة التسعير للأصول ويمنع تحويل الدخل من عموم الشعب الأميركي إلى الرأسمال المالي ويعيد فتح أسواق الاعتماد.
صحيح أن هذه الخطوة كبيرة وذات طابع اشتراكي، إلّا أنها الوحيدة التي تستطيع إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار الكامل، إذا تلازمت مع خطة إنفاق حكومي أكثر توسّعاً من الخطة الحالية من الناحيتين الزمنية والمالية، أي خطة كينزية أكثر جرأة، وفي ظل الظروف السياسية في الولايات المتحدة قد يكون هذا أقصى ما يمكن أن نتوقعه الآن، ولكن اتخاذ مثل هذه الخطوات قد يخلق «حلقة مهمة في التطور تؤدي إلى ظهور حركة جماهيرية معادية للرأسمالية»، بحسب ما قاله الاقتصادي البولوني أوسكار لانجه منذ حوالى سبعين عاماً.
هل سيفعل أوباما هذا؟ وبالتالي تتأكّد مخاوف اليمين الأميركي، التي عبّر عنها الجمهوري المتطرف راش ليمبو عندما قال إن أوباما «يقوّض الرأسمالية الأميركية»، أم سيبقى أوباما في الوسطية ويقضي على حلم عشرات الملايين من الأميركيين بالتغيير؟