ألبر داغر1. طبع حضور الرئيس السنيورة على مدى عقدين من الزمن، كوزير للمال أولاً ثم كرئيس للوزراء، حاضر لبنان ومستقبله. وهما عقدان انهار فيهما الاقتصاد اللبناني كاقتصاد منتج بشكل لم يسبق له مثيل، وفقد لبنان موارده البشرية بالهجرة، وانتزعت منه ميزات كثيرة كان يمكن أن تعينه في يوم من الأيام على الخروج من التخلّف.
بدأت القصة مع مجيء الرئيس الحريري إلى الحكم. كانت فترة إنفاق عام لم ينتبه الذين أطلقوها أننا لسنا عائمين على بئر نفط، على شاكلة البلدان التي كوّنوا خبراتهم فيها، وهو إنفاق لم يؤت إلا القليل على صعيد إعادة الإعمار وإقامة البنى التحتية، وهو ورّط لبنان بمديونية عامة جعلت الإنفاق العام منذ النصف الثاني من التسعينيات، معنياً فقط بتأمين خدمة الدين العام. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت كل موازنة سنوية تقدم على أنها تندرج ضمن «رؤية» طويلة الأمد يتبناها القائمون على الشأن العام.
2. كان تنفيذ الموازنة يتم من خلال خفض الإنفاق العام ما أمكن، عبر طريقة رصد الاعتمادات والامتناع لأسباب شتى عن صرف النفقات. وتظهر هذه المقاربة للأمور، أنها هي الأخرى نسخة عمّا كان يحصل قبل عام 1975، حيث كان الاهتمام ينصبّ على تحقيق فائض في الموازنة. عبّر الأمر آنذاك عن أخذ المسؤولين بمقاربة ليبرالية لدور الدولة في الاقتصاد تجد ترجمتها في الالتزام بتأمين توازن المالية العامة. لكن وجه التمايز بين القائمين على المالية العامة بعد الحرب وليبراليي ما قبل عام 1975، أن أولئك لم يورّطوا البلاد في دين عام هائل، كالذي ورطت به لبنان حكومات ما بعد الحرب.
أما «الرؤية» التي طالما تحدث عنها الرئيس السنيورة، وأشارت إليها فذلكات الموازنة منذ كان هو نفسه وزيراً للمال، فتتلخّص بضرورة العمل على مدى سنوات للوصول إلى فائض في الموازنة العامة يستخدم في إطفاء الدين العام.
لم يكن في هذه «الرؤية» أي ابتكار. فلقد حددت النصوص المتعاقبة التي أصدرها صندوق النقد الدولي بشأن لبنان هدفاً يتوجب على الحكومات أن تلتزمه، وهو تأمين موارد كافية لتغطية النفقات العامة (Financial Viability of the State). وأصرّت المؤسسات الدولية على أن يلتزم المسؤولون تحقيق هذا الهدف، ما دامت هي من يوفر للبنان مقرضين أجانب و«ادّخاراً» خارجياً يموّل خدمة الدين العام.
وطبعاً كان للاهتمام بمديونية الدولة بعد آخر. فقد وفرت هذه المديونية منذ الأساس لمن يتولون إقراض الدولة فوائد هائلة، وجعلت من فئة «أصحاب الريوع المالية» الفئة الأكثر حظوة في لبنان، والأكثر استفادة من السياسة الاقتصادية فيه.
3. بقي النقاش العام على مدى السنوات العشر الماضية يدور حول مسألة المديونية العامة وكيفية تعاطي الدولة معها. أغفل هذا النقاش أن على الدولة مسؤولية أكبر وأهم تتناول دعم المؤسسات الإنتاجية، والإسهام في بناء اقتصاد منتج قادر على المنافسة في الأسواق الدولية. وخلت الموازنات التي عكف الرئيس السنيورة على إعدادها سنة بعد سنة من أية إجراءات يراد بها دعم القطاعات الإنتاجية.
بل أكثر من ذلك، عرّضت إجراءات الحكومات المعنية القطاعات الإنتاجية الوطنية لصدمات منافسة خارجية أدّت إلى إقفال الآلاف من المؤسسات. وحين ألغيت الرسوم الجمركية في عام 2000، لم يهتم أحد بما سيلحق بالمؤسسات الإنتاجية القائمة من أذى جرّاء هذا القرار. وفي ما بعد، قال أحد الوزراء في حكومة الرئيس السنيورة الأولى للصناعيين بصريح العبارة، إن عليهم الذهاب إلى بلدان أخرى إذا كانوا يصرّون على الاستثمار في الصناعة.
وثابرت هذه الحكومات على الاعتقاد أن النمو يتحقق في لبنان حين يتصرّف هذا الأخير كالتلميذ الشاطر، منفذاً أجندة تحرير المبادلات مع الخارج بحذافيرها. وهذا من شأنه، بالنسبة لها، أن يجعل الاستثمار الأجنبي المباشر يتدفق على لبنان.
أما اعتماد إجراءات حماية ودعم لقطاعات بعينها، بهدف جعلها قادرة على بناء قدرة تنافسية تسمح لها بولوج الأسواق الدولية، واعتماد برامج استثمارات حكومية تؤمن بناء عشرات «المناطق الصناعية» أو «المحميات الصناعية الوطنية» يصار لاستقبال مؤسسات القطاع الخاص فيها من دون مقابل، شرط أن تحقق هذه الأخيرة نتائج يمكن قياسها في الأسواق الدولية، واعتماد سياسة تمويل حكومي للاستثمار الصناعي، بواسطة مؤسسة حكومية تنشأ لهذه الغاية، فكلها أمور كانت بعيدة عن تفكير هذه الحكومات، وبعيدة عن التصور الذي يأخذ به الرئيس السنيورة لدور الدولة في الاقتصاد.
4. إنها التجربة الأسوأ في تاريخ لبنان على صعيد السياسة الاقتصادية. وهي التجربة التي ضرب القائمون عليها الرقم القياسي في مجال الهذر، لعل الناس يقتنعون بأن لها مقاماً علمياً، أو أنها تنطوي على إيجابيات.