strong>وائل عبد الفتاحالشباب والكهولة تبحثان في مصر عن «بديل». الشعب يريد الفتوة والجماعة تبحث عن مرشد، والرئيس خالد لكن الفروع الشابة من عائلته تبحث عن فضاء أنيق. تبدو كهولة مصر في تحدٍّ ما مع عالم جديد بقيادة أوباما الشاب. هذا جيد. لكن كيف ستبحث مصر عن بديل؟

■ مفاجأة المرشد «الأخير»



لم يستطع محمد مهدي عاكف مخالفة أوامر حسن البنا. ترك الدراسة في كلية الطب ودرس الألعاب (التربية البدنية). المرشد الأول رأى أنه جسد قوي يصلح لمهمّات معينة «فى التنظيم الخاص» (الجناح السري المسلح للإخوان).
تدخّل حسن البنا في تحديد مصير شاب عمره 18 سنة وقتها (1946)، واختار بدلاً منه طريق حياته. أي إن مهدى عاكف تربية نظام السمع والطاعة. ومكانه في الجماعة محجوز من اليوم الأول لقوته البدنية.
ولد في السنة التي ولدت فيها الجماعة. وظلت محطات حياته مرتبطة بخطوط حركتها: السجن، الهجرة من مصر، بناء التنظيم الدولي في ميونيخ والعودة ودخول مجلس الشعب في تحالف حزب العمل عام 1987.
طوال الوقت هو موظف في الحكومة (وصل إلى درجة المدير العام للشباب في وزارة التعمير)، ومرتبط بحركة الشباب (مسؤول الطلاب في الجماعة ومتخصص في إقامة معسكرات الشباب داخل التنظيم أو في تغطية نشاط التيار الإسلامي).
وكانت هجرته الأولى إلى السعودية، حاضنة «الإخوان». سافر إليها سنة 1974، بعد الخروج من السجن وعمل مستشاراً للندوة العالمية للشباب الإسلامي ومسؤولاً عن مخيماتها ومؤتمراتها. ومنها انتقل إلى مركز إسلامي في ميونيخ.
مسيرة طبيعية لعضو من التركيبة القديمة لـ«الإخوان»، التي كان الدور الأكبر فيها للكشافة وأنشطة تربية الكوادر بطريقة شبة عسكرية (أقرب إلى الفاشية) من أجل تكوين ميليشيات للوصول إلى السلطة.
هو أول مرشد يتحوّل إلى نجم إعلامي ومصدر أخبار عمومية (أجرى حوارات في صحف الحكومة). كلهم قبله كانوا نجوماً في الظل. زعماء لجماعة ترى أنها شهيدة الحياة السياسية. ضحايا عداء السلطة التاريخي.
هو أول مرشد يخرج إلى النور ويضطر إلى التحدث مثل الجنرالات عن مرحلة ما بعد الانتصار. وهذا مأزق كبير. فهو متعود اللغة السرية، وكلاماً يستحوذ على تعاطف جاهز مخصوص للمضطهدين.
يبدو انفعالياً. سريع الغضب. يفجّر قنابل عندما يخرج عن النص وهذا ما جعل مكتب الإرشاد يحاصره في القرارات والخطب. وهكذا عندما فجّر مفاجأة تقاعده بعد انتهاء ولايته الأولى، كان التفسير الجاهز: يبدو أنها قنبلة داخلية هذه المرة.
تصور البعض أنها إعلان غضب من حصار مكتب الإرشاد، أو ملل من حال المراوحة في المكان التي تعيشها الجماعة منذ اختفاء عقلها المدبّر، النائب الأول للمرشد، خيرت الشاطر، وراء قضبان السجن الحربي.
لكنها قد تكون مبادرة فعلية من بطريرك يريد الاعتزال والاستراحة، ربما ليكسب معركة بالنقاط من النظام؛ فالمرشد أصغر من الرئيس حسني مبارك بعامين. وإذا اكتفى بدورة واحدة فهو دليل على روح ديموقراطية تهب على الجماعة، التي كان مرشدها لا يغادر مقعده إلا بالموت.
هذه الروح تلفت الانتباه إلى التنظيم في لحظة تحولات كبرى في المنطقة، التي يعاد ترتيبها من جديد ليجري استيعاب الهوامش المنبوذة في تركيبة مختلفة عن سنوات مبارك الطويلة.
هذه رسالة وإعلان وجود غالباً
الرسالة تقول تقريباً: «نحن ديموقراطيون على عكس اتهامنا بأننا تنظيم كهنة مغلق على نفسه».
لكنها رسالة ملتبسة. بدت كأنها رغبة شخصية من المرشد. لم تتزامن معها إعلانات إصلاح في هيكل الجماعة أو صعود لتيار الوسط المبعد والصامت، أو استيعاب لتيار التمرد على أرثوذكسية الأجيال الحاكمة في الجماعة.
تمرد على السمع والطاعة دفع أحد المنتمين إلى تيار التمرد إلى تخيل أنه لو عاش مؤسس الجماعة حسن البنا في الوقت الحالي، لكان سيرتدي الجينز، ولكان سيتعلم التصوير.
لم يحلم المرشد الأول بحكم مصر، لكنه وضع بذرة حلم رومانسي بدولة تعيد مجد دولة الخلفاء الراشدين، وتسير على سنّة النبي محمد. رومانسيّة سياسية داعبت المشاعر المهزومة من الاحتلال، وأدخلت معها العشرات والمئات في لعبة خلط الدين بالسياسة.
لم يكن «الإخوان» رجال مؤسسة دينية يحكمون باسم قداسة السماء ويحملون صكوك الغفران. لكنهم استمدّوا جاذبيتهم من كونهم على الهامش، فى المعارضة بعيداً عن السلطة. وهي جاذبية كادت أن تنتهى حين أرادوا اقتسام السلطة مع الضباط الأحرار، لتكون هذه الشرارة الأولى لحرب بين السلطة و«الإخوان»، مستمرة حتى الآن. هذه الحرب هي سر جاذبية الإخوان حتى الآن.
يبدو «الإخوان» الوجه الآخر للسلطة، رغم أنهم يعيشون أزمة منتصف العمر في التنظيمات. فهم يحبون صورتهم الجديدة كتنظيم معتدل ينعم بتوازن مع السلطة ومع كل التيارات الأخرى. وفي الوقت نفسه لا يستغنون عن أوهام التنظيم الكبير، القوي، الجبار، المكتسح للجميع. وهي خرافة لكن الجميع يصدّقها. فالصورة المتخيلة عن «الإخوان» أضخم بكثير من الصورة الواقعية. وهم يعيشون على الخرافة. رغم أنه بحساب القوى، وتصوّر أن التنظيم بهذا الحجم، لكانوا قادرين على الوصول إلى السلطة بسهولة الانتقال من حجرة النوم إلى الحمام.
يريد «الإخوان» أن يستمرّوا كجماعة دعوة (بكل ما فيها من احترام للقداسة وتصور أنهم يمتلكون حقيقة مطلقة وتراتب في جهاز الجماعة يشبه الكهنوت الديني)، وفي الوقت نفسه يعلنون رغبتهم في التحوّل إلى حزب سياسي (يقبل بتداول السلطة ونسبية الأفكار وقابليتها للتغيير).
لا تمثل «استقالة» مهدي عاكف إزاحة عن فكرة السمع والطاعة. فالمرشد المقبل سيجلس على مقعد مثل البطاركة. ويمر الأعضاء يقبّلون يده (من أجل التبرّك أو إعلان الطاعة أو كرمز لاحترام لا يحدث إلا في ثقافة ريفية ترفع من درجة احترام الصغير للكبير إلى حد الخضوع التام له).
سيظل المرشد القائد الروحي، الذي يضع على أول برنامج جماعته إعادة تربية الإنسان التربية الإسلامية. وهذا هو قانون الأحزاب الفاشية، التي لا تترك خياراً للإنسان، بل تتصور أن لديها ماكينة تصنيع مواطن صالح.
قد تكون هذه التوقّعات خاطئة وتكون مفاجأة «الإخوان» أكبر وتبحث الجماعة عن طريق للتحوّل إلى «حزب سياسي»؟ عندها سيكون مهدي عاكف هو المرشد الأخير.

■ «الفتوّة» المنتظر



انتظار البطل المنقذ هو فكرة في المخيلة الشعبية للشعوب المضطهدة. لكنها في مصر تحمل نكهة أخرى، ولا سيما أنها مجرّبة وأثبتت فشلها، غير أن الشعب لا يملّ الانتظار
«يحيا..» علت أصوات جمهور كبير في لقطات مرتجلة مصورة بكاميرا الهاتف المحمول. صيحات تشبه ما يحدث في ملاعب كرة القدم. لكنها مباراة من نوع مختلف استهوى عشرات الآلاف من زوار موقع «يو تيوب» ليتابعوا لحظات تحطيم أقسام شرطة.
جمهور هائج على طريقة ما كان يحدث في زمن الفتوات، حين كانوا الحرافيش يهللون للفتوّة المنتصر. وعندما يزداد ظلم فتوّة ما وفساده يشجعون آخر يتوسّمون فيه العدل والنزاهة. «فتوّة عادل» يصعد على الأكتاف ويمارس قوة مطلقة تفتح بوابات المفسدة المطلقة. جمهور يشعر بالعجز وبانعدام القدرة على تغيير الأحوال، وبأن «الفتوّة المنتظر» هدية من السماء. هدية بؤس، لكنها بالنسبة إلى العاجزين هي كل الأمل في توقيف آلة القوي الجبارة عند حدودها.
صانع السير الشعبية في الخمسينات لم يجد بطلاً شعبيّاً سوى فلاح اسمه أدهم الشرقاوي. أرادت به ثورة تموز حذف بطولات زعماء الاستقلال من مصطفى كامل إلى محمد فريد، وحتى سعد زغلول ومصطفى النحاس، لتنفرد هي بالبطولة السياسية وتترك بطولات مقاومة الاستعمار للشرقاوي.
قاطع طريق وقاتل بالأجرة، لكن بعد موته في كمين شرطة في تشرين الأول 1921 تحول من ابن ليل إلى بطل شعبي مثل «روبن هود» الإنكليزي و«زاباتا» المكسيكي. لصوص وقطّاع الطرق أصبحوا أبطالاً شعبيين، ورموزاً لمقاومة الشر والظلم (والاستعمار طبعاً).
ولد أدهم الشرقاوى عام 1900 (تقريباً) في عائلة ملّاكي أراضٍ في محافظة البحيرة. الأب مات قبل أن يُنهي أدهم تعليمه الثانوي، لتبدأ المشاكل بينه وبين عمّه عمدة القرية، الذي لفّق قضايا تسجن الفتى المراهق وهو في سن السادسة عشرة. وفي السجن، بدأت رحلته مع الجريمة الحقيقية بقتل أحد أعوان عمه. هرب بعدها لكي يواصل الانتقام من الظلم والقسوة العائليين. النقلة كانت مع إعجاب «أبناء الليل» بالشاب الجريء، لتتحول الجرائم العائلية إلى جرائم ضد الظلم والشرطة، التي كانت تحت سطوة الإنكليز. المهم أن أدهم وجد عائلة جديدة مع مطاريد القوة الظالمة، خاض بهم عمليات النهب والسرقة، وتحوّلت سيرته إلى موّال شعبي يتغنّى بالبطل الذي لا يعرف أحداً سر شعبيته. هل لأنه حارب الشرطة والقانون. وكلاهما يرمز إلى الاحتلال؟ أم لأنه كان يسرق من الأغنياء فقط؟ أم لأن الناس يتعاطفون مع من يعادي الحكومة، وخصوصاً عندما تكون فاسدة أو غاصبة ومحتلة؟
التحليلات السياسية والاجتماعية مغرمة بتفسير جاهز يرى أن المصريين في انتظار بطل أو فتوّة. لكن قد تكون فكرة البطولة محل شك عند المصريين بعد تجارب كشفت خيبة الأمل في «الفتوة المنتظر».

■ في رثاء الاستبداد «الأنيق»سوداوية استفزّت صديقه الذي صرخ: «نفسي أعيش يوم واحد مع رئيس آخر». كلاهما لم يرَ رئيساً غير مبارك. وبدا لهما الأمر على عتبة مرحلة «سرمدية» لا فكاك منها، تدفعهما إلى ضحكات هستيرية على ملاحظة أن الزمن يمر ويترك شعرات بيضاء في الرأس علامة على مروره، بينما مؤسسة الرئاسة ضد الزمن، خالدة وراسخة.
صديق للساخرَين خياله أكثر كابوسية، تخيّل أن سيناريو التوريث لن يفشل لكنه سيتلقّى صدمة بذهاب جمال إلى ربه وساعتها ستكون مانشيتات الصحف صباح يوم الجنازة «السيد علاء مبارك ينعى أخاه جمال إلى الأمة ويتعهد مواصلة الطريق من أجل مصر». الابن الأكبر سيتسلّم الشعلة ويكتب كبار الصحافيين مقالات ترحيب تقول: «لن تركع مصر أبداً فالذي أمات جمال وهبنا علاء»، وبالطبع ستنتخب أمانة السياسات السيد علاء مبارك رئيساً لها.
السخرية المرّة تعبّر عن رعب من الخلود، وبالنسبة إلى هؤلاء الساخرين فإن جمال مبارك هو الشاب الذي لا يبتسم كثيراً. ابن مؤسسة الرئاسة نفسها. تربية الاستبداد الذي يرى أن الحريات والحقوق منحة من الحاكم. ووصوله إلى الحكم هو تعبير عن «استبداد أنيق» سيحل محل النموذج القديم، الذي انتهت صلاحيته في العالم القديم.
جمال مبارك انتزع حق الحركة لأنه ابن الرئيس، وبينما كان يتلقّى دروسه من مربّين سياسيين يعملون في حاشية أبيه، كانت الحركات السياسية من اليمين إلى اليسار تطارَد بالاعتقال والتعذيب والصفقات التي انتهت بتدجين كل أطياف المعارضة الشرعية.
وصل جمال مبارك على جثة الحياة السياسية بأكملها.
كلاهما: الاستبداد العتيق والأنيق، يفرز أسوأ ما في المعارضة. معارضة مكبوتة محتقنة، تحارب فاشية النظام بفاشية مضادة. هما معاً يستفزّان كل ما هو مستبد ومتخلّف في المجتمع، وبدلاً مثلاً من قبول تطوّر طبي مثل التبرع بالأعضاء فإن المجتمع يرفض عناداً بالحكومة والنظام. وبدلاً من الالتزام بقانون مرور يحمي الجميع من طرق الموت، فإن الاحتجاج على الاستبداد يرفض القانون وتتحوّل الطرق إلى ملاعب انتحار يومية.
وبدلاً من طيف معارضة واسع لا وجود سوى للإخوان المسلمين.
هذه معارضة مريحة للاستبداد. معارضة تخدع الناظر من بعيد ليرى أن جمال مبارك هو قائد التحديث، وهذه هي النكتة الكبيرة فعلاً.