لا تزال الأزمة المالية تمثّل أبرز موضوعات النقاش، إلا أن للبنان ميزة إضافية، فبإمكانه أن يجمع بين نقاش «المُستعمِر والمُستعمَر»، مع انعكاس تداعيات الأزمة على اقتصاده ذي الطبيعة الريعية، وتزامنها مع واقعه السياسي والأمني
محمد وهبة
اتجاهان سادا في مؤتمر «الاستثمار في المتوسط» الذي انعقد أمس في فندق فينيسيا بحضور حشد من رجال الأعمال العرب والأوروبيين، الأول كان علنياً في جلسات العمل التي ناقشت أساساً الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على تبادل الاستثمارات بين شمال دول المتوسط وجنوبها، والثاني كان خاصاً يتعلق بكثرة انعقاد مؤتمرات الاستثمار في لبنان وقلّة الاستثمارات فيه، وسيطرة الاقتصاد الريعي على القطاعات الإنتاجية في استقطاب رؤوس الأموال.
عبّر عن الاتجاه الثاني بوضوح رئيس مجلس الإدارة ـــــ المدير العام لمؤسسة تشجيع الاستثمارات نبيل عيتاني، إذ قال لـ«الأخبار» إن عام 2008 لم يشهد استثمارات إضافية عن تلك المسجلة في عام 2007، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية في الأشهر الأولى من السنة الماضية، ثم تحوّل الأجواء إلى إيجابية بعد اتفاق الدوحة، فشهدنا موجة من التحويلات النقدية تزامنت أيضاً مع انفجار الأزمة المالية العالمية، في مقابل ثبات لبناني في مواجهتها.
ويأمل عيتاني أن تتحول بعض رؤوس الأموال التي اعتبرت لبنان «ملاذاً آمناً» أن تستقرّ في لبنان وتوظّف في مشاريع استثمارية. لكن مصادر مصرفية مطلعة أكدّت أن قراءة بسيطة وسريعة للميزانية المجمعة للمصارف لعام 2008 تفيد بأن هذه الأموال كان مصدرها ما يسمى «مصارف المراسلة» أو فروع المصارف اللبنانية العاملة خارج لبنان، وهي قد أتت بالدولار وحُوّلت إلى الليرة اللبنانية، ثم وُظّفت في سندات الخزينة بفائدة مرتفعة نسبياً، فيما بعضها كان قد وُظّف في قطاع العقارات قبل الأزمة.
ويستدل إلى هذا الواقع، بأن تباطؤ الاستثمارات في لبنان بات يعبّر عنه العاملون في قطاع السياحة الذين غالباً ما كانوا متفائلين بعد اتفاق الدوحة، إذ يعتقد الأمين العام لجمعية خبراء الشؤون السياحية والفندقية عمر العيد أن هناك «تباطؤاً في الاستثمار»، لافتاً إلى أننا سنرى حركة استثمارية بسيطة وخجولة في عام 2009، لكن فرصة الاستفادة من الأزمة المالية ممكنة، لأن «دبي، التي كانت تستحوذ على كثير مما يمكن للبنان أن يقدمه، تأثّرت، ودول الخليج الأخرى، بالأزمة العالمية، ولم تعد تنافس لبنان كما في السابق، وبالتالي لدينا فرصة لأن نستقطب استثمارات، وخصوصاً إذا أنجزت الانتخابات النيابية». وتنحو القطاعات الإنتاجية باتجاه أكثر عمقاً، فالعاملون فيها لم يلحظوا تدفق الاستثمارات، والسبب، يقول رئيس جمعية الصناعيين فادي عبود، أن أسعار الفائدة في لبنان تستقطب بعض أصحاب الأموال من أوروبا، لأنهم يحصلون على ما بين 6 في المئة و7 في المئة على الودائع بالدولار، مقارنة مع ما يقارب 1 في المئة في دول أوروبا، إلا أن هذا الأمر ليس لمصلحة البلد «يجب علينا أن نأخذ العبرة مما حصل بالاقتصاد الريعي في العالم أو اقتصاد السمسرة، فقد انهار بجرّة قلم، فيما هناك عودة عالمية إلى الاقتصاد الحقيقي الملموس».
ويضرب عبود مثلاً عن تونس التي يجب أن نحذو حذوها، فهي تصدّر إلى أوروبا بقيمة تصل إلى حوالى 7 مليارات يورو، وبالتالي علينا استقطاب مشاريع مشتركة وتوظيفها في التكنولوجيا، فالأسواق التقليدية في الخليج ضرورية، لكن يجب فتح أسواق أوروبا أيضاً. غير أنه لا يخفي أن التركيبة الحالية الاقتصادية ـــــ السياسية والوضع الأمني لا يساهمان في استقطاب الاستثمارات.
ومن المشاركين في المؤتمر وزير التجارة والصناعة الكويتي السابق يوسف زلزلة، الذي يطلق عليه لقب الوزير اللبناني في حكومة الكويت، وقد قدم لـ«الأخبار» رؤية «من فوق» أشمل وأوسع، فلمّح إلى الانتخابات النيابية ليشير إلى عدم الاستقرار السياسي المعرقل لاستقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال الخليجية، لكن «القطاع الخاص في هذه الدول يرغب بسماع الكلمات التي تؤكد رغبة الدولة اللبنانية بفتح أبوابها للاستثمار، علماً بأن الاستثمارات الخليجية في غير قطاع العقارات هي قليلة وفردية وغير مؤطرة، وتحتاج إلى نظام استثماري توجيهي يعدّ خطة استراتيجية واضحة يتعامل بها مع المستثمرين، فالمشكلة أن لدى لبنان مكتباً من هذا النوع (إيدال) ولكنه لا ينفّذ ما يجب تنفيذه».
وفي ما خص قضية الاستثمارات في دول المتوسط، عرض نائب الرئيس الأول لاتحاد رجال الأعمال المتوسطي جلال الزربة (مصري)، في الجلسة الأولى في الملتقى، العلاقة التاريخية بين دول شمال المتوسط وجنوبه التي «كانت بين مُستعمر ومُستعمَر، وكان الأول يتحكم في إدارة الشؤون الاقتصادية. واليوم عادت الدول إلى التحكم في الاقتصاد، فيما الاستثمارات البينية لم تنجح بين الطرفين بعد». وبالتالي على القطاع الخاص «أن يقرر ماذا يريد وأي نوع من العلاقة؟»، لكن زلزلة الذي تحدث في الجلسة نفسها، أوضح أن العلاقة لا تزال نفسها منذ العشرينيات، حيث يسيطر مفهوم الاستعمار، واستُبدل اليوم بالقوة «إذ إن دول الخليج تحاول منذ سنوات التوصل إلى اتفاق تبادل تجاري مع فرنسا، ولم ينجح الأمر لأن الأخيرة تعتقد أن الخليج يطلب أكثر مما يمكنه الحصول عليه. يجب أن نفرض مطالبنا».
أما اقتراح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بإنشاء مصرف لدول المتوسط، فقد انتُقد من المشاركين الذين رأوا أن هذا الطرح «عجوز» ويُعلَن في ساعات الإفلاس من الأفكار.