Strong>مؤامرات سريّة لنهب مصرالأشباح تغزو القاهرة. هكذا يرى العشاق المتيّمون بالمدينة الساحرة والضخمة والمرهقة في آن. غزو الأشباح أيقظ الكوابيس المفزعة: أين حراس القاهرة؟ من يحميها من طبقات متوحشة تلتهم الثروات بغريزة بدائية؟

وائل عبد الفتاح
يظهرون ليلاً. يصلون إلى موقع العمل كأنهم جيش سري ينشر قواته تحت ستر الظلام. ورغم أن ليل القاهرة لا ستر فيه، فالشعب الليلي يراقب ما يحدث، ويفهم أن آلات البناء الضخمة تنفّذ مخطّطاً سريّاً في مزرعة الزيتون الكبيرة إلى جوار سجن طرة الشهير.
لا يعرف أحد من الشعب الليلي من وراء المخطط، لكنهم عرفوا بسهولة أنها مبان سكنية لضباط الشرطة. الشرطة تخطف مشروعاً في جنح الظلام؟ لماذا؟ الخبراء عرفوا أن المشروع كان مخصّصاً لنادي غولف بدلاً من مزرعة تحمل معها تاريخ السجناء السياسيين غالباً. لكن هناك من رأى اقتناص الفرصة وبناء بيوت جديدة لضباط محظوظين في موقع متميّز (على كورنيش النيل).
الفرصة هنا هي لحظات انتقالية غير معلنة بين عصرين. يحاول الشطّار احتلال مساحات بقوة النفوذ والسلطة، بعيداً عن التصورات الموجودة عن شكل المدينة. المناطق المطلّة على النيل هي فرص متاحة لأصحاب مراكز القوى. يختطفونها ويحوّلونها إلى ملاعب للمستقبل. يحجزون بها موقعهم في مصر مقبلة لا يعرف أحد على وجه الدقة شكلها ولا خرائط القوة فيها.
يتسلّل الجيش السري ليلاً لينفذ العملية، وسط دهشة السكان المحيطين. حياتهم وموقعهم في الحياة سيتغيّران من دون علمهم وإرادتهم. القاهرة مدينة لا تتواصل قلوبها المتعددة. قلبها الفاطمي معزول عن أحلام أسرة محمد علي في قاهرة باريسية. وقلبها الثوري في أحياء المهندسين والدقي مقطوع الصلة وبعيد عن القلبين السابقين.
لم يظهر عقل يخطّط لوصل المدينة العملاقة. كائن ممزّق وأسطوري بلا عقل يمدّ الخطوط والخيوط. عقل خطاف، مهارته في التمزيق والتفتيت وربط المدينة باسمه. اختطف الضباط الأحرار بريفيّتهم أماكن البورجوازية والأرستقراطية، وخطفها منهم نخبة تجار الفهلوة، الذين صنعوا خليطاً عشوائياً.
الآن نخبة جديدة بلا ثقافة تريد عاصمة أنيقة فاخرة، ولديها مشروع غامض لتطوير قلب القاهرة. يبدو المشروع من بعيد شبيهاً بشركة إعمار وسط بيروت «سوليدير». المشروع أفزع حراس المدينة من ملاك وعشاق لصورتها القديمة. الصوة تائهة وسط طوفان عشوائي، لكنها تبقي «فضاء حنين» يريح حراس المدينة ويمنحهم فرصة للترحّم على أيام حلوة اختطفتها ثقافة الزحام والغوغائية.
غالبيّة بنايات وسط القاهرة يتيمة، تملكها شركات تأمين تابعة للدولة، والبقية ملكية خاصة لعائلات مصرية. يُتم القاهرة الباريسية، أو الخديوية، واقع راهن رغم سحرها القديم. البنايات لم تلمسها الصيانة ولم تحافظ عليها قوانين تفهم في الذوق والتاريخ من عبث المجددين الذين يطوّرونها بشكل قبيح ويضعون عليها ألواناً مزعجة، ويزرعونها بعلب التكييف والطوابق المخالفة.
كأن الحكام، من الثورة إلى الآن، يمارسون عملية انتقام غير واعية، يمحون فيها تاريخ المدينة الجميل بممحاة قبيحة. ومثل الجيش السري، تجري في الخفاء عملية شراء منظمة لبنايات «وسط البلد»، أو ما يسمّيه القاهريون قلب مدينتهم.
العملية أثارت الهواجس النائمة كلها. وتفجّرت الحكايات المثيرة عن شركات اشترت بالفعل بنايات، بينها واحدة تضم مقهى «ريش» الشهير، وأرسلت إنذاراً بطرد أصحاب المقهى. والسؤال لماذا الطرد إذا كان الغرض التطوير وإعادة القلب القديم؟
حكايات أخرى عن شركات أجنبية مجهولة ترسل إلى أصحاب البنايات وسكانها خطابات تعرض عليهم شراء العقارات مهما كان حالها وبأعلى سعر. وحكايات عن شركة تشتري البيوت القديمة في منطقة الجمالية (القاهرة الفاطمية) بأسعار خيالية، وأخرى تشتري بنايات منطقة «بولاق أبو العلا» وتهدمها لتقيم بدلاً منها أبراجاً حديثة. ومعلومات عن مخططات لقلب القاهرة يعدّها مهندسون ومعماريون أوروبيون.
الهواجس كلّها تجمعت في ثلاث جهات: الأولى الأجانب، والثانية اليهود... والثالثة جمال مبارك ومجموعته من رجال الأعمال.
مجرد هواجس بلا وثائق أو بوثائق مشوّشة تحاول فهم ما يجري لوسط البلد. الهواجس تقاطعت من جهة مع الصراع الخفي على خطف مواقع في الفترة الانتقالية، ومن جهة أخرى مع مخططات الوراثة السياسية الغامضة، وأصبحت جزءاً من الصراع السياسي المحيّر في مصر.
الاستشاري الهندسي الدكتور ممدوح حمزة، الذي كانت لديه ملاحظات كبيرة على الخطط العمرانية لحكومات النظام المتعاقبة، فجّر منذ أيام القضية على صفحات «المصري اليوم»، حين تحدث عن «مخطط شراء وسط البلد ومصر القديمة»، مشيراً إلى أن هناك شركتين بالتحديد لم تعلنا هويتيهما. وهذا وحده علامة تثير الشك والريبة في المخطط.
وأكد حمزة أن هناك خطاباً «أرسل أوّلاً إلى سكان المناطق المذكورة سالفاً، وجاء خالياً من أي اسم للشركة أو عنوانها. مجرد صندوق بريد في منطقة الزمالك. أما الصياغة التي جاء بها فواضح جداً من التعبير أنها ترجمة حرفية منقولة عن لغة أجنبية».
وأوضح حمزة «أن هناك شركة يونانية تستخدم بعض السماسرة المصريين لشراء هذه الأراضي وإتمام الاتفاق، ثم يأتي مندوب من اليونان ليوقّع العقد ويرحل فوراً». وهذا في رأيه «عبث بمنطقة ليست ملكاً لأحد، حتى الحكومة. هي مرآة البلد كله، تعكس تاريخه وثقافته وحضارته. أما لو كان مخططاً لبناء أبراج سكنية، فهذه كارثة أخرى الغرض منها تحويل القاهرة إلى عاصمة مطموسة المعالم مثل دبي».
الهواجس دخلت في السجال السياسي، وردّ أحد الكتّيبة المستميتين في الدفاع عن نظام مبارك، وهو رئيس تحرير «الجمهورية» محمد علي إبراهيم، باعتبار «حمزة مثل هيكل يشعر بمرارة».
ورغم أن الهجوم ضمن حملة الدفاع عن النظام، لكنّه سرّب معلومة أن هناك بالفعل شركة اسمها «ماسبيرو للعقارات» تخطط لشراء عقارات في منطقة «بولاق أبو العلا» وتستهدف إقامة «مثلث استثماري ضخم» على كورنيش النيل.
مرة أخرى النيل. ومرة أخرى فرص غير معلن عنها خطفتها شركات غير معروفة مسبقاً. ومرة أخرى جيش سري يتحرك ليلاً لفرض الأمر الواقع.