تذوقت إسرائيل أول من أمس عيّنة نموذجية من الطبخة التي أشرفت على طهوها منذ أعوام. بدا المستوطنون في «موقعة» الخليل كالمخلوق الذي يتمرد على بارئه. فهم قبل كل شيء صنيعة المؤسسة الإسرائيلية
محمد بدير
تكفي الأرقام وحدها لتثبت كيف عززت تل أبيب المشروع الاستيطاني، حتى في ذروة مفاوضات التسوية والحديث عن السلام المقترب في الفترة التي أعقبت أوسلو: خلال هذه الفترة، ازداد عدد المستوطنين من نحو 150 ألفاً في أرجاء الضفة الغربية إلى ضعف هذا الرقم تقريباً. حصل ذلك في ظل الحكومات المتعاقبة، العمالية والليكودية، التي أبقت لاعتبارات ائتلافية وسياسية وأمنية دعمها للاستيطان قائماً رغم مواقف والتزامات علنية تظهر خلاف ذلك.
لم يبدأ الأمر بإسحاق رابين، الذي أمر، بموازاة توقيعه على اتفاقية أوسلو، بتحويل ملايين الشواكل سراً إلى المستوطنات، ولم ينته بإيهود أولمرت الذي بلغ العجز الرسمي الإسرائيلي حيال ظاهرة الاستيطان في عهده درجات قياسية. وهكذا هي الحال بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو الذي تسجل الإحصاءات الإسرائيلية نشوء 42 بؤرة استيطانية إبان فترة حكمه. وإيهود باراك الذي كان يقدم اقتراحاتٍ بشأن التسوية وتنفيذ انسحابات في كامب ديفيد، فيما عمل وراء الكواليس على ضخ موازنات ضخمة للاستيطان وراء الخط الأخضر. وأرييل شارون الذي أمر بإعداد تقرير عن «الاستيطان غير القانوني» في الضفة الغربية أظهر أن أكثر من نصف بؤر هذا الاستيطان نشأ في عهده.
مشهد أول من أمس في الخليل قُدم في الخطاب الرسمي والإعلامي الإسرائيلي على أنه انتصار لمنطق الدولة على مُتَحَدِّي سلطتها والمارقين على القانون فيها. نسي هذا الخطاب أن هؤلاء كانوا حتى الأمس غير البعيد «ملح الأرض» و«خيرة شبابنا» وأنهم من المشاركين في الوحدات القتالية الطليعية في جيش الاحتلال.
انقلب السحر على الساحر، ومع الوقت بدأ يتكشف أن ثمة مشروعاً لهؤلاء لا يتطابق بالضرورة مع مشروع المؤسسة السياسية الحاكمة، وإن كان يتقاطع معه في نقاطٍ مهمة، على رأسها حفظ الكتل الاستيطانية الكبرى تحت السيادة الإسرائيلية. بالنسبة إلى هذه الشريحة من المستوطنين، لا مكان لسلطة غير السلطة اليهودية في الضفة الغربية ولو اقتضى الأمر التلويح بـ«انتفاضة يهودية» من أجل ترسيخ هذا المعنى في الوعي الإسرائيلي الرسمي، فليكن. وما فعلوه في الخليل هو، في خلفيته، تطبيق موضعي لهذه الاستراتيجية من خلال السعي إلى تحويل أي مواجهة مع السلطات إلى صدام دامٍ وتفجير أمني يفترض أن يخلفا صدمة في وعي الرأي العام الإسرائيلي ووسط صناع القرار لردعهم عن اتخاذ قرارات كبيرة تتصل بالوضع في الضفة الغربية ضمن إطار أية اتفاقية تسوية مستقبلية. الواضح، رغم «ملحمة» إخلاء البيت في الخليل، وفي ضوئها، أنهم ماضون في مخططهم وأنهم تمكنوا من فرض معادلة تميل إلى كفتهم.