محمد زبيبيستطيع المسؤولون اللبنانيون أن يردّدوا ليل نهار «أننا في منأى عن تداعيات الأزمة العاصفة في الأسواق المالية العالمية»، إلا أن ذلك لن يكون كافياً لإزالة القلق الذي يعتمر النفوس. فلبنان، كما قال رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في المجلس النيابي أول من أمس، «جزء من النظام المالي العالمي»، وهذا يعني أن ما يصيب هذا النظام سيصيب كل الدول المرتبطة به، ولو بدرجات متفاوتة، وبالتالي لن يكون هناك خوذة واقية فوق رأس أي دولة، إلا بمقدار ما تتخذه من إجراءات جدّية وفعّالة تؤمّن لها الحد الممكن من الحماية.
المسألة في لبنان، إذا صحّ طبعاً الكلام عن سلامة أوضاع المصارف اللبنانية وعمليّاتها، تتركز على ضرورة اتخاذ إجراءات الحماية من الآثار المحتملة للأزمة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية الأكيدة، الآن وعلى المدى المنظور، وهذه الإجراءات هي من مسؤولية الحكومة، وهي تشبه استعمال «حزام الأمان» في السيارة، إذ إن الركّاب لا يكونون محميين أبداً، إذا استخدموا هذا «الحزام» بعد حصول الاصطدام، لأن التقيّد بشروط السلامة، هو إجراء استباقي يهدف إلى الحدّ من الضرر في حال حصوله... ولن ينفع السائق مواصلة التباهي بمهارته في القيادة ليقنع الركّاب بأنهم في أمان، إذ إن لكل سائق كبوة أو هفوة، فكيف إذا كان السائق «المتباهي» قد بلغت ثقته بنفسه درجة «الاستهتار»، وبات يستسهل مواصلة القيادة على حوافي «المهوار»؟
ومثال «حزام الأمان» ليس مثالاً عبثياً، بل هو مثال مقصود، إذ إن الأكثر تضرراً من اصطدام السيارة، هم الذين يجلسون في المقدمة، وفي حالة الأزمة الراهنة التي تجرّ العالم كله إلى الكساد الكبير، فإن أبناء الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود والفقراء والضعفاء والمهمّشين... هم أكثر الفئات تعرّضاً للتهديد، بسبب احتمال فقدان مصادر دخلهم أو مدّخراتهم المتواضعة أو القوّة الشرائية لمداخيلهم ومدّخراتهم... وهذه الفئات، التي تكون عادة ضحايا سهلة في الأزمات، إذا خسرت، فإنها تخسر كل شيء، حتى حياتها، خلافاً لأصحاب الثروات الذين يملكون القدرة دائماً على استعادة ثرواتهم بفعل موقعهم في السلطة وبنية النظام السياسي والاقتصادي.
منذ بداية الأزمة الراهنة، وردهات المصارف تشهد ازدحاماً بأصحاب الودائع الصغيرة، يسألون بقلق شديد عن مصير ودائعهم، وهم لا يملكون إلا الاستماع إلى الموظفين الذين يتلون عليهم خطابات التطمين المنقولة عن مسؤولي الدولة والقطاع المصرفي: «اذهبوا، ناموا في منازلكم وأبوابكم مفتوحة»، ولكن ذلك لا يزيل قلقهم، فمعظمهم اختبر هذا النوع من التطمين في السابق، ليستفيق وقد طارت حتى أبواب المنازل... يغادرون المصارف حاملين قلقهم إلى شاشات التلفزيون، يقلّبون القنوات بتوتّر علّ أحدّهم يبشّرهم بضمان ما، فلا يحصلون إلا على المزيد من الخطابات التي تريد أن تقنعهم بأن فؤاد السنيورة ومحمد شطح ورياض سلامة هم أذكى وأدهى من جورج بوش وهنري بولسون وبن برنانكي... فيغرقون بمديح مجّاني لأصحاب القرار الذين تحسّبوا للأزمة قبل وقوعها، واتخذوا كل الإجراءات اللازمة وجعلوا من لبنان حصناً منيعاً: إنها الفرادة مجدداً... بل إن البعض يظهر على الشاشات ليبشّر بأن لبنان سيكون مستفيداً من الأزمة الطاحنة، لأن الخليجيّين سيهربون بأموالهم واستثماراتهم وودائعهم إلى جنّاته «المحمية»، فربّ ضارّة نافعة... هكذا يتعاملون مع أقسى وأضخم أزمة في النظام الرأسمالي منذ عشرينيات القرن الماضي، ولكن لا أحد يأتي على ذكر الكلفة.
لقد لجأت أكثرية الدول إلى إجراءات غيّرت وجهها الاقتصادي، ومن لم يشعر بالأزمة بعد شكّل خلايا أو فرق عمل للتفكير واقتراح الإجراءات، إلا في لبنان لا يريد أحد ممّن في السلطة أن يتعاطى من موقع المعنيّ بالأزمة، فما الذي سيحصل إذا أصابتنا الأزمة في الصميم؟
إن صغار المودعين (الحسابات تحت 50 مليون ليرة في المصارف) اللبنانيين لا يملكون إلا 12% من مجمل الودائع، إلا أنهم يشكلون 90% من الحسابات، ولا تبلغ قيمة ضمان الودائع في لبنان إلا 5 ملايين ليرة، أو ما يعادلها بالدولار (3300 دولار)، وهذه القيمة حددت منذ أوائل التسعينيات، علماً بأنها كانت تبلغ قبل ذلك حوالى 15 ألف دولار، فما الضّير من زيادة قيمة الضمان إلى مستوى يحمي صغار المودعين على الأقل، أي إلى 50 مليون ليرة، أو ما يعادلها بالعملات الأجنبية؟
طبعاً، هناك من يعترض على إجراء كهذا بحجة أنه يرتّب أكلافاً على الدولة، وهذا أمر يمكن تجاوزه بإعادة طرح مشروع خصخصة مؤسسة ضمان الودائع، عبر شراء المصارف لحصة الدولة، التي لا تدفع الحكومة أصلاً مساهمتها فيها، والبالغة أكثر من 600 مليون دولار (انتبه للمخاطر هنا)، وتقوم الحكومة باستعمال أموالها عبر الاكتتابات شبه القسرية في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، تماماً كما تفعل بحوالى 3600 مليار ليرة من أموال تعويضات المضمونين في صندوق الضمان الاجتماعي، التي يمكن أن تتبخر في لحظة واحدة، إذا تراجع سعر صرف العملة الوطنية، وهو أمر مرجّح لكل العملات.
اليوم سينعقد مجلس الوزراء، ولا يمكن تصوّر أنه لن يناقش هذه المسائل بالذات، فالواجب والمسؤولية يقتضيان الآن بعض التواضع والحرص والجدية، والخروج بقرارات ومشاريع قوانين لخصخصة مؤسسة ضمان الودائع وزيادة قيمة الضمانة ودعوة المصارف لزيادة اكتتاباتها وفقاً للمعايير المعتمدة وبالنسب نفسها لنسب توزّع الودائع بين الليرة والعملات الأجنبية، فضلاً عن البدء بورشة حقيقية لتحرير أموال صندوق الضمان والسماح له باتخاذ كل الإجراءات لضمان القيمة الشرائية لأموال المضمونين.