في وطن يفتقر أهله إلى الدولة، يعيش الفلسطينيون بأوراق مؤقّتة يوافق عليها الاحتلال. فكيف حال من لا يملكونها؟
غزة ــ قيس صفدي
«بلادنا أصبحت سجناً للجميع، بمن فيهم أصحاب الهوية. فكيف بنا نحن فاقدي الهوية، ونحن لا نملك أي إثبات على وجودنا وكياننا؟» بمثل هذه العبارة يواسي فاقدو بطاقات الهوية الفلسطينية، المعروفون اختصاراً بـ«البدون»، أنفسهم لسوء ظروفهم المعيشية.
يعيشون معاناة بنكهة خاصة، لا إثبات على وجودهم سوى أجسادهم وقصص معاناتهم، وجميع مشكلاتهم يتلخص حلها في وثيقة اسمها «هوية». فلا إمكان للسفر أو العلاج، وحتى العمل من دون الهوية، التي يحتاج إصدارها إلى موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
نحو 100 ألف فلسطيني مصنفون على قوائم «البدون»، 60 في المئة منهم يقيمون في قطاع غزة الفقير والمحاصر، بعدما دخلوا أراضي السلطة عقب اتفاقية أوسلو بواسطة تصاريح زيارة، وقرروا عدم المغادرة والإقامة الدائمة من دون قدرة على التحرك والتنقل والسفر، لكونهم من «النازحين». يجدون الهوية ورقة النجاة لهم من حالتهم المأساوية، فمنهم من فارق أحبته منذ أعوام ولم يرهم هو وأجيال من عائلته، ومنهم من يصارع المرض في انتظار أن تصدر له هوية تمكنه من استصدار جواز سفر للعلاج في الخارج.
أعداد قليلة من بين آلاف فاقدي الهوية في الضفة وغزة حالفهم الحظ بالحصول على بطاقة الهوية، في إطار ما تصفها دولة الاحتلال بـ«مبادرات حسن النية» تجاه الرئيس محمود عباس.
مزيونة البطش (45 عاماً)، أم لتسعة أطفال، تقول: «أول مرة سافرت فيها كانت إلى السعودية عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري لأتزوج من قريب نازح لا يمتلك هوية، وبعد سنوات عدت إلى غزة برفقة زوجي وأولادي، وقررنا الاستقرار بعد سنوات الغربة ولم نلتفت لمخالفة تصاريح الزيارة وفقدان الهوية».
شعرت البطش وأسرتها بأهمية بطاقة الهوية عندما احتاجت إلى السفر برفقة ابنها علي، الذي اكتشف الأطباء إصابته بمرض القلب ويحتاج إلى عملية جراحية عاجلة لا تتوافر لها الإمكانات المادية والبشرية في مستشفيات غزة. لجأت إلى شقيقتها كي ترافق الطفل المريض، وقالت: «تعهدت لها برعاية منزلها في غيابها، وأصبحت في حال صعبة للغاية ما بين رعاية منزلين والقلق الدائم على ابني المريض والبعيد عن عيني».
عاد علي برفقة خالته إلى غزة، لكنه لم يشف تماماً، وكان بحاجة إلى السفر للمتابعة الطبية دورياً، لكن خالته لم تعد تقوى على مرافقته بسبب المرض. وبعينين دامعتين، قالت البطش إن «حياتنا لا تطاق وكأني انتظر موت ابني لحظة بلحظة والجريمة التي ارتكبتها أنني لا أمتلك بطاقة هوية تؤهلني لمرافقة ابني في رحلة البحث عن الحياة». رحمة الخطيب (25 عاماً) تقول: «جئت إلى قطاع غزة في عام 1997 بتصريح زيارة، وبقيت بعدها حتى يومنا هذا، وأطالب بحقي في الحصول على بطاقة هوية، لكوني فلسطينية رغم أنف المحتل».

غريبة في بلدي

وتبقى معاناة فاقدي الهوية مستمرة بوجوه كثيرة ومتعددة، فهذه اعتدال سمارة (47 عاماً) كانت تعيش في الولايات المتحدة قبل سنوات طويلة، وعادت إلى أهلها في الضفة الغربية قبل أن تتزوج وتقيم في غزة منذ عام 1981، تقول: «كنا نذهب إلى الضفة من دون أي قيود حتى وضعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قيوداً على التنقل بين الضفة وغزة، أبرزها الهوية والتصاريح، ومن هنا بدأت مشكلتي». لم تر اعتدال أهلها في الضفة الغربية منذ 19 عاماً. وتقول: «أشعر بالظلم الشديد لحالتي، فأنا بنت البلد وغريبة فيها، لا هوية ولا إثبات للمواطنة».
فاطمة درويش لم تتشجع للحديث في البداية، فمن وجهة نظرها «لا فائدة من المقابلات الصحافية». غير أنها صمتت للحظات قبل أن تسرد حكايتها، فهي أم لم تسمع عن ابنها المقيم في مصر أي خبر منذ نحو شهرين. قالت: «ابني لا يحمل بطاقة هوية مثلي، ولو كنت أعرف أن مصيرنا سيكون هكذا، لما أخرجته من غزة، فأنا لم أره منذ عام 1997».