Strong>وائل عبد الفتاح
هذه صور من مصر. تحكي عن لحظتها المربكة. التسلل من الحديقة الخلفية لقصر الحكم أصبح علنياً ليصبح ابن الرئيس ابن الشعب. وعائلة طبقة وسطى اكتشفت أنها كانت مصنعاً لقاتل مأجور. أما الضحايا فهم كثر في مستوطنة لجوء في قلب القاهرة

نجم الحزب السري

«أشعر بالمهانة والقهر»، يقول محامٍ ترك السياسة من فترة طويلة وتفرغ لحقوق الإنسان. يقولها كلما وصل الحوار إلى موضوع زيارات جمال مبارك الأخيرة للقرى وجولاته التي «جرجر» فيها الوزراء. كل التحليلات لم تمنع المشاعر السوداء، لماذا يتحرك جمال مبارك وكأنه حاكم دولة؟ ما هي صفته؟ وما هو الوضع الدستوري الذي يسمح له بالتجول بين الناس على مزاجه؟
الحقيقة الظاهرة أن هذه ليست جولات حزبية، وإلا فلماذا لا يسمح بمثلها لرؤساء الأحزاب الأخرى أو بمثل هذه التغطيات الإعلامية؟ النائب المستقل، جمال زهران، تقدم بطلب إحاطة لرئيس الحكومة بشأن الوضع الدستوري الذي يسمح لجمال مبارك بافتتاح مشاريع واصطحاب وزراء في جولات بين القرى. ورأى أن التغطيات الإعلامية للجولة إهدار للمال العام لأنها كلفت ٢٠ مليون جنيه (٤ مليون دولار).
جولات جمال مبارك هي شكل من أشكال إدارة الحكم، وتهدف إلى فرض بديل واقعي في حالة غياب الرئيس المفاجئ. سيكون الشعب قد اعتاد الرجل الصغير وهو يتجوّل ويفتتح مشاريع. ويصبح جمال «قيادة طبيعية يمارس الحكم بالفعل» و«هو أولى من غيره».
صحيح أنها فكرة تقترب من الاعتراف بمبدأ الحكم من الباطن وتشبه وضع اليد على أراضي الدولة ثم التصالح وتحويلها إلى ملكية حقيقية، لكنها فكرة مقبولة شعبياً.
طبيب مهتم بالسياسة التقط فكرة لمّاحة، وهي أن مشكلة جمال مبارك هي الإصرار على فكرة الغموض. ينفي في كل مكان أنه يسعى إلى وراثة أبيه، بينما أفعاله كلها تتجه إلى هذه الوراثة. لماذا لا يعلن الهدف وتفاصيل السيناريو؟ هل يتصور أنه سيصل بالخديعة؟ الخديعة تكاد تكون المشروع السياسي لجمال مبارك، فلا أحد يعرف فعلاً ماذا يعمل بالضبط؟ من أين يكسب؟ هل هو شريك في شركة أوراق مالية فعلاً؟ وما هو تأثير مشروعه السياسي على مشاريعه المالية؟ لن تجد إجابة واضحة عن سؤال واحد.
الحوار عن جمال مبارك عاد بقوة خلال الأيام الماضية مع تخصيص صحف الحكومة عناوين على ثمانية أعمدة في صفحاتها الأولى لتغطية الجولة، رغم أنه جرى العرف على أن هذا الموقع خاص بأخبار رئيس الدولة.
يأتي هذا في وقت يبدو فيه أن النظام يفك ارتباطاته برجال الأعمال (السند الأساسي لجمال)، لكن ليس إلى درجة الطلاق البائن. وعلامة الاطمئنان الوحيدة هي وجود جمال مبارك متحركاً من دون وسيط في «قرى الغلابة»، كما قالت الصحف الحكومية، التي استخدمت الأساليب نفسها لصحافة الدعاية السياسية أيام الملك.
الصحف نشرت صور جمال بين الناس والفلاحين، ثم وهو يعانق بعضهم، وأخيراً وهو يمسح عرقه. هذه صور يمكن مطابقتها مع نوعين من الصور؛ الأولى للملك فاروق أثناء محاولة تدريبه السياسي للتعامل مع الجماهير أو في صنع شعبية له في أوساط الفلاحين. وفي هذه الصور كان ولي العهد يبدو متألقاً. تتجمع كل عناصر إقامته الطويلة في القصور لتمنحه وهجاً يجعل الناس يحبونه، رغم أنه ليس منهم.
هذه الصور التقطت من قبل أيضاً عندما تولى الضباط حكم مصر. وكانت وقتها إعلان احتفال جماعي بنجاح أبناء الشعب في الوصول إلى قصور الحكم. كانت الفرحة طاغية على وجوه الناس لأن من بينهم خرج من سيحكمهم.
جمال مبارك لا هذا ولا ذاك. ليس ولي عهد يحمل جاذبية الملوك، ولا ابن الشعب المنتصر. واختيار مجموعات الدعاية لهذه النوعية من الصور جاء بحكم العادة ومن دون خيال سياسي على الإطلاق. بدا جمال في الصور بلا جاذبية، أقرب إلى كومبارس يحاول أن يؤدي دور النجم الغائب.
جولات جمال مبارك هي تشديد على أنه المرشح الوحيد، وليس أمام الطامعين والحالمين إلا أن يظهروا معه ويسيروا في حاشيته. إنه بحكم الأمر الواقع ولي العهد، وبحكم القانون الداخلي للنظام. هو صاحب الشرعية، أو بمعنى أدق هو الوحيد الذي له الحق في خطف الشرعية.
من أين يستمد نظام مبارك شرعيته؟ سؤال ربما فسّر النفسية التي تجعل ابن الرئيس يتحرك في البلد على مزاجه. نظام مبارك وريث أنظمة تستمد شرعيتها من ثورة تموز. لكن شرعية الثورة تبخرت ولم يجد النظام شرعية جديدة. شرعية حرب تشرين انتهت سريعاً، لأن النظام نفسه دمرها قبل أن تصبح حقيقة واختصر النصر في الضربة الجوية. وبالطبع لا يمكن نظاماً أن يقيم شرعيته على أي عملية عسكرية كانت جزءاً من حرب كبيرة.
اخترع نظام مبارك شرعية عرفية. شرعية الاستمرار. أصبح استمرار الرئيس هو الشرعية الوحيدة. هو صاحب البلد ويفرض وجوده بالقوة. ويمنح عطاياه لمن يريد. استمراره أقوى من كل شيء، وهذا ما يمنح جمال حق خطف الشرعية قبل غيره.
الأرض تمهد للخطف، لكن الخطف فعلاً سيكون عبر ما يمكن تسميته الحزب السري لجمال مبارك. حزب داخل الحزب يديره واحد من مدربي جمال السياسيين. يستخدم الآليات نفسها للتنظيم الطليعي أيام جمال عبد الناصر. تكون عبر سنوات من العمل في صفوف شباب الجامعة، وفي ظل جمعية «جيل المستقبل»، التي أنشأت امتداداً لها اسمه «رابطة خريجي جيل المستقبل».
هذه الرابطة هي الحزب السري الذي يرتبط الأعضاء فيه بشبكة واسعة عبر البريد الإلكتروني والهواتف المحمولة. يسجل العضو اسمه في هذه الشبكة ويستطيع عبرها تحقيق أكثر من مصلحة، أولها الحصول على فرص عمل متنوعة وفي أماكن حيوية. وثانياً الارتباط بكوادر تجهز لتكون قيادات جديدة في المواقع الحساسة بالدولة. ثالثاً الترشيح في نقابات أو روابط مهنية بدعم من الحزب الوطني ومجموعة جمال.
هؤلاء هم جمهور جمال مبارك وحزبه السري الذي يمكن أن يفاجئ الجميع بتظاهرة مليونية تطالب بوصوله إلى العرش، وساعتها سيكون مطلباً شعبياً، لا مجرد رغبة عائلية.
وهذا سر الحرص على لقاء جمال مبارك السنوي بطلاب الجامعات. إنه موسم التقاط العضوية النشيطة وتجديد شبكة الاتصالات المعتمدة على القدرات المالية وعملية غسل دماغ طويلة المفعول قامت بها أجهزة الإعلام ورسخت بها أفكاراً خطرة تمنع التفكير.

مخيمات لجوء في قلب القاهرة

«احذروا الطاعون القاتل»، مكبرات الصوت ملأت المنطقة، ومشاهد المخيمات المترامية على مساحات بالأبيض والبرتقالي، صنعت مناخ، «رائحة ما بعد غارات الحروب»

ما يحدث في الدويقة هو الحرب بالنسبة إلى أجيال جديدة سمعت عن رائحة الحروب وشاهدتها في السينما. وهذه مخيمات لاجئين في قلب القاهرة. الفكرة ليست غريبة تماماً عن سكان العاصمة المنكوبة بسقوط الأبنية وزلزال عام 1992. يسمونها مخيمات الإيواء، لكنها هذه المرة بدت أكثر تراجيدية. إنه غضب من نوع غير معتاد. مجتمعات مطرودة من نعيم المدينة الكبيرة تتدحرج عليها صخرة من أعلى ارتفاع في القاهرة لتنهي تماماً ملامح المغامرة.
الإقامة في حضن الجبل وعلى مقربة من حافته هي مغامرة كاملة. مغامرة «المضطر الذي يركب الصعب». يسرق مساحة بعيداً عن عين الحكومة ويمد فيها حياته. وتتمدد لتصبح مجتمعاً كاملاً مغلقاً على ذاته. مجتمع موجع للمدينة الكبيرة ذاتها. يسميه علماء المدن «عشوائيات» تتعامل معها الحكومة على أنها نتوءات مغضوب عليها، بؤر احتقان أو وباء المدن الكبيرة. حاولت أن تتخلص منها، تارة بالحنان المصطنع أو بالقسوة.
أجواء الحرب لم تخلُ من رسائل رمزية، أولها عاصفة من الحجارة انطلقت من أيدي شباب الدويقة باتجاه وفد حكومي يتجول في المنطقة. الرسالة الثانية تهديد بإغلاق الطريق العام وإشعال النار في السيارات إذا نفذت الأجهزة الحكومية قرارها بوقف البحث عن جثث الضحايا.
الموقف ملتهب، والطاعون قد ينتشر، واللاجئون موعودون ببيوت جديدة تصل إليها الكهرباء والمياه. صحف الحكومة التقطت صوراً لهم وهم يحملون صك ملكية الشقق، بينما هناك الآلاف في انتظار صخرة جديدة «قد تسقط قريباً جداً»، بحسب مصادر حكومية.
الجرافات مثل الكائنات الخرافية تحاول تفتيت الصخر الهائج، والمئات من الذين يتحرك الموت باتجاههم يملأون ممرات حي «منشأة ناصر». يبحثون عن فرصة إنقاذ أخيرة. يحاولون حشر الأسماء الشخصية والعائلات في قوائم النجاة من الموت تحت الصخور.
كل هذا تحرك بقوة الفجيعة. الموت حاضر في إيقاع الخروج من الكوارث التي أصبحت اعتيادية مع تفتت أجهزة الصيانة في الدولة. لم يتحرك أحد دفاعاً عن الحياة، بل خوفاً من الموت. وهذه مأساة أخرى لها روائحها المختلطة بغبار البحث عن ضحايا طبعوا لحظات فزعهم على صخرة تتفتت الآن، وهي تحتفظ ببقايا احتفالاتهم وأحزانهم.
المفتي عدّهم شهداء ليبرد نار الغاضبين، وليمنح بعداً غريباً للموت في حرب لم يخضها قتلاها. كأن الضحية، وهي تعيش في مساحات مسروقة من المدينة، تبحث عن منتجع في الجنة.

صورة عائليّة للقاتلالصور العائلية تشير إلى أسرة هادئة من الطبقة الوسطى المنسجمة مع وجودها في قلب القاهرة (حي السكاكيني بالقرب من الظاهر). امتداد للمدينة القديمة أقامت فيه العائلات الصاعدة قبل الثورة وبعدها عبر التعليم والانضمام إلى جيش موظفي الدولة.
ضابط ومدرسة، كل منهما سعيد بهيئته في الصورة العائلية؛ الأب يرتدي البزة الرسميّة، والأم فستان سيدات المدينة في السبعينيات، وخلفهما محسن الذي سيصبح بعد سنوات بطلاً لواحدة من أكبر جرائم السنوات الأولى للقرن الحادي والعشرين.
العائلة لم تغيّر شقتها، لا يزال الأب يعيش فيها وحيداً بعد وفاة الزوجة. لكن محسن انتقل بعيداً، حياته لم تكن بهدوء أبويه. تزوج وطلق سريعاً. أصيب بجنون العصر والتقط شرارة العلاقة بين سلطته (ضابط في جهاز أمن الدولة) والمال (السلطة الجديدة الخارجة من سنوات حرمان الحروب الطويلة).
قادته السلطة إلى خدمة أميرات (السعودية هند الفاسي) ورجال أعمال (نجيب ساويرس في العراق وهشام طلعت مصطفى في شرم الشيخ). الحكايات كثيرة عن إقالته من أمن الدولة ثم من العراق واستقراره مع هشام طلعت مصطفى.
لكن المهم أنه انتقل بسرعة صاروخية إلى أصحاب الملايين، وصورته المنشورة على غلاف «أخبار الحوادث» بنظارته السوداء وملامحه التي اقتربت من صائدي الثروات المعاصرين. لم يعد الوجه ينتمي إلى حكاية معروفة أو امتداد للصبي المستقر خلف عائلته. ينتمي إلى مقامرة أخطر، التقى فيها بالعاشق المهزوم الراغب في نهاية دموية لعلاقة مركبة.
هكذا تنتهي الحكاية بصور أخرى عن الضابط الذي تحرّكت ملامحه الخارجية ليبدو قوياً، بينما لم تنضج مهاراته ولا قواه الداخلية. وبين الاثنين فراغ يملأه بصلف وقسوة وإدمان للمخدرات.
هل هذا مصير ابن عائلة الطبقة الوسطى؟ العائلة غابت عن تفاصيل حياة ابنها الذي تحول إلى نجم في جريمة، بعدما كانت تنتظر منه أن يكون صائد مجرمين. وزميله في الجريمة يحاول بشتى الطرق أن يخرج منها، ولو من خلال دفع دية، قيل إنها ستصل إلى 20 مليون دولار. وسيبقى وحده محسن، ابن العائلة الهادئة، ينتظر مصيره وسط مجرمين يتقاتل معهم على السلطة في الزنزانة أو نصيبه من جرعة مخدر مهربة.