Strong>وائل عبد الفتاح«فتش عن الكبير»، هذه الإجابة الحاسمة في ملفات القلق المفتوحة بجروحها وانقلاباتها، من قانون المرور الجديد، إلى محاكمة العبّارة وحتى حرب التصفية بين الصحافيين. ومع «التفتيش» يولد شعور بالخوف والغضب وما يستجد من مشاعر لن تعرفها إلا في مصر

قانون السيطرة على الشارع



بدأ في مصر، أمس، تطبيق القانون المرعب. قانون المرور الذي «يرى أن كل ركاب السيارات مخالفون حتى يثبت العكس»، كما قال السائق الذي سمع تحليلات التلفزيون وتهديدات شرطة المرور. القانون يغلّظ العقوبات ويوسع دائرة الحبس في مخالفات السير، ويضع شروطاً تعجيزية للهروب من الغرامات وسحب التراخيص. ويفرض أيضاً «شكلاً مثالياً» لسيارات تسير في الجنة لا في شوارع مصر المزدحمة حتى ساعات الفجر بسيارات تجاوز عمر غالبيتها 50 عاماً.
نكتة القانون المرة هي حقيبة الإسعافات الأولية ومثلثات عاكس الإضاءة التي ستفتش عليها دوريات المرور، وهو ما دفع إلى زحام شديد على المحال المحتكرة لبيع الحقيبة والمثلثات.
ومن قبيل السخرية، انتشرت تسمية «قانون الشنطة»، ومعها حكايات عن شقيق أحد «كبار» الحزب الوطني الحاكم الذي احتكر بيع الحقائب الخاضعة للمواصفات المطلوبة. وتباينت تفاصيل الحكاية: هل هو من القوة والنفوذ الذي يجعله وراء فرض الحقيبة والمثلثات، أم إن «النفوذ والقوة» سمحا له فقط بالتقاط المعلومة فسارع إلى احتكار الاستيراد؟
لا يهتم الجمهور بدقة التفاصيل. فهي لا تغير ربط القانون بصفقة ما تخدم شخصاً مهماً أو النظام كله. ربط لا يتمتع بوعي سياسي عميق، لكنه يلتقط خيطاً في علاقات غير مرئية بين الأمن والصفقات والنظام. هو «تعبير درامي» عن مفهوم في السياسة بأن القرارات لا تصدر للمصلحة العامة، ولكن لمصلحة مجموعة محدودة من أصحاب النفوذ.
ورغم أن القانون يتضمن مواد كثيرة هدفها السيطرة على الشارع، إلا أن الحقيبة استحوذت على الجدل الأكبر. فهي «موضوع ملموس»، بينما الإحساس بالسيطرة على الشارع «رسالة رمزية» عن رغبة الأمن في استعادة ما فقدته قبضته في سنوات الشد والجذب الأخيرة.
هذه السنوات اهتزت فيها هيبة الأمن إلى درجة أن تظاهرة من 20 شاباً على كورنيش الإسكندرية أربكته. وبدا أن الأمن بصورته القديمة يفرض حضوره على الشوارع.
في كل دول العالم، الشارع مكان للقاء الجماعي ولاحتفالات الناس. ساحة للحرية. المدن الحديثة، وبينها القاهرة والإسكندرية، صممت شوارعها الواسعة وميادينها، ليس لمجرد عبور السيارات، لكنها فرص للتجمع والتعبير الحر.
الشوارع في مصر تحت الحراسة. النظام أمّمها لمصلحته. حوّلها إلى ثكنات. في كل زاوية تجمعات سوداء من قوات الأمن المركزي. والميادين تحوّلت إلى غابات حديدية وزنازين مفتوحة بأسوار عالية تحجز الناس خلفها. هذه الشوارع تشبه النظام السياسي. فوضى واستبداد وانزعاج من أي لقاءات خارج السيطرة.
سيطرة قديمة للأمن جعلت مجموعات «6 نيسان» تطالب، في بيان، بحل جهاز مباحث أمن الدولة، الذي عدّوه «غير شرعي». هذه أول إشارة من جيل المعارضة الجديدة ضد جهاز تضخمت سيطرته، إلى درجة أنه أصبح الطريق إلى المناصب الكبيرة. كما أنه لا يمكن التفكير في فتح متجر أو صحيفة أو حزب سياسي إلا إذا وافق أمن الدولة.
مباحث أمن الدولة هي أداة الدولة البوليسية. اليد الطولى التي تدير مصر من الباطن. ضباطها هم الحكام الحقيقيون لكل مؤسسات مصر: من الجامعة إلى مجلس الشعب، مروراً بكل تفصيل. تقرير أمن الدولة هو بطاقة إلى جنة الحياة السعيدة. والعلاقة مع أمن الدولة هي مفتاح الوجود الشرعي.
تغير النظام في مصر من الملكية إلى الجمهورية، ولم ينته الدور السياسي لمباحث أمن الدولة. تتسع صلاحياته بشكل خرافي، ليس للحماية، بل للسيطرة والتحكم وضمان الولاء الكامل في كل المؤسسات.
مخبرو أمن الدولة أصبحوا من كل فئات المجتمع. ومندوبو الجهاز يتنقلون وفق خط سير يومي من مناطق التوتر في الشوارع إلى كل غرفة مغلقة لها تأثير على القرارات في مصر.
سلطة تتضخم في ظل حكم قانون الطوارئ، الذي جعل الاستثنائي طبيعياً طيلة 27 سنة. من الاستثناء ولد نفوذ الجهاز المرعب في مصر. لم يعد جهاز حماية سياسية، بل جهاز الإدارة السياسية.
أصبح كل المواطنين متهمين حتى يثبت العكس. وارتفعت أعباء الجهاز إلى درجة أصبح يحتاج إلى خبراء في كل المجالات، من الاختراعات العلمية إلى جمعيات مساعدة الفقراء. لم يعد المهم ملاحقة الجماعات غير الشرعية. فأمن الدولة يدير كل أنشطة مصر. ولم يعد خافياً أن نظام حسني مبارك عاش بالبوليس واستمر بالبوليس.
وليس غريباً هنا ما يرصده الباحث سامر سليمان في كتابه «نظام قوي ودولة ضعيفة» من ارتفاع مصاريف وزارة الداخلية في تسعينيات القرن الماضي إلى حدّ غير مسبوق. «ولم يقتصر نموّ وزارة الداخلية على نصيب متزايد من الإنفاق العام، ولكنه تضمن أيضاً زيادة عدد أفراد الشرطة من 150 ألفاً في 1974 إلى أكثر من مليون في 2002».
هذه إشارة واضحة طبعاً إلى أن «الوظيفة الاجتماعية للدولة تناقصت لمصلحة الوظيفة الأمنية». ليس هذا فقط، بل إن البوليس يعتمد على العمل بالسخرة في قوات الأمن المركزي «التي يبلغ عدد أفرادها 450 ألفاً من المجندين في الخدمة العسكرية الإجبارية».
الأمن المركزى تكوّن بعد فشل الشرطة في مواجهة انتفاضة 18 و19 كانون الثاني1977. وكان بديلاً لنزول الجيش في الشارع. بات قوة غير عاقلة أدت دور «البعبع» الذي يخيف كل من يحاول الاحتجاج. هكذا زادت قوة الشرطة وهيمنتها. عبّر عن هذا تغيير الشعار من «الشرطة في خدمة الشعب» إلى «الشرطة والشعب في خدمة الوطن». أصبحت الشرطة في وضع التساوي مع الشعب.
يقترب وضع الشرطة اليوم من وضع «الجيش في العهد الناصري». وأصبحت، في عهد مبارك، أحد مصانع مراكز القوى في مصر. لكنها لا تزال بعيدة عن باب الرئاسة العالي.
ومن باب الطرافة، قال الرجل الزاحف إلى الستين لصديقه على المقهى، تعليقاً على حكاية عن ضابط أحجم عن تحرير مخالفة له عندما رآه في سيارة فخمة، «بالتأكيد عرف أن من يركب هذه السيارة له قريب ضابط». ولم يضحك صديقه، فكر في التفسير وقلب في رأسه عن سجل أقاربه.

النفوذ والأعمال والعائلة



ثالوث للسطوة والسلطة أطل برأسه على مصر في السنوات الأخيرة. لم يعد الأمن وحده مركز القوة، أضيف إليه رجال الأعمال المرتبطون بالنظام وعائلة الرئيس المنغمسة في عالم الأعمال
بعد غرق العبارة بأيام، ظهر صاحبها ممدوح إسماعيل على التلفزيون بكامل مكياجه. الصبغة السوداء تظهر آثارها الحديثة على فروة الرأس، ما يدل على أنها وُضعت قبل وقت قليل من الوقوف أمام الكاميرا. هل هذه ثقة زائدة؟ أم اطمئنان إلى أنه مسنود ومن المحاسيب، وأن العاصفة ستهدأ وينسى الناس العبارة والضحايا كما نسوا كوارث أخرى؟
المهم أن الانطباع الذي تركه هو الشعور باللامبالاة، وإحساس خفي بالخبرة في «تظبيط» الأوراق وتحريك العلاقات للخروج من الأزمة. وهذا ما حدث فعلاً؟ كان ممدوح إسماعيل يدرك القانون الذي صعد به إلى عالم المليارديرات. هو قانون أقوى من المحاكم. قانون يعيش عليه نظام مبارك الذي اعتمد على فكرة «الكبير» أو مركز القوى، الذي يدير منطقة لحسابه. يدين بالولاء للرئيس ويظل على مقعده إلى أن يشاء الرئيس، ويدير شبكة علاقات ومصالح تخصه وحده. شبكة تتحول مع الأيام إلى مؤسسة غير مرئية تضمن للكبير استمرار ثروته وتضخمها وتؤكد سلطته.
في أسبوع الآلام من حكم براءة ممدوح إسماعيل، لم يعد كافياً ربط قضيته برئيس ديوان رئيس الجمهورية، زكريا عزمي. تسرب اسم أكبر لشخص أكثر قرباً من عائلة الرئاسة. وهو اسم يجمع بين 3 مصانع لمراكز القوى: ضابط سابق وقريب لعائلة الرئيس ومن ديناصورات رجال الأعمال.
مع وصول مبارك إلى الحكم، تفككت الحواجز بالتدريج بين السلطة والأعمال. بدأت برجل في الظل يعمل باسم رجل كبير في السلطة. النظام يريد أن يقول للعالم إنه ودع الاشتراكية بغير رجعة، وإنه يفتح الأبواب أمام القطاع الخاص. وفي الوقت نفسه، لا يريد أن تنفلت الثروة بعيداً عن سيطرته. وتقرر أن تتم التقسيمة على «أهل ثقة». هؤلاء كانوا الجيل الأول من الديناصورات الذين كبروا وسمنوا في رعاية «الدولة» وتحت جناحها. لم يؤلّفوا طبقة رأسمالية وطنية تنمو وينمو بها اقتصاد الدولة. تضخمت الثروات بقوة الصاروخ وتحرك الاقتصاد بسرعة السلحفاة. الهدف لم يكن النمو، بل توزيع الثروة بشكل يضمن سيطرة النظام عليها.
العائلة أضيفت إلى مراكز القوى في السنوات السبع الأخيرة. أصبح هناك حماية من العائلة، حماية لا تعرف حدوداً. من اللحظة التي دخل فيها جمال مبارك عالم السياسة، أصبح هناك من يستمد الحماية من ابن الرئيس، بما يمكّنه من تحريك مؤسسات ضخمة؛ يخشاه الموظفون أصحاب السلطة. وسرعان ما يتحول إلى صاحب وضع حساس يمنحه القوة ويفرض عليه الشطارة في البعد عن المشكلات المباشرة. يعني اسرق ولا تجعل الناس ترى أصابعك، أو اقتل ولا تترك بصمات.

الجيل التالي من بارونات الصحافةهم وحدهم الصحافيون، ومؤسساتهم هي الصحافة التي كانت الضلع الثالث في دولة الفساد التي تحكم مصر. رؤساء التحرير تحوّلوا إلى مراكز قوى وأصحاب نفوذ، لا مشاغبين في مهنة البحث عن المتاعب والتفتيش عن الحقيقة. تحوّلت مؤسسات الصحافة التابعة للنظام إلى مخازن لمدفعية ثقيلة في مواجهة من يتصدى لقضايا الفساد أو يخرج عن التواطؤ بالصمت عن عملية نهب مصر بالتقسيط المريح. كان من المفروض أن تقوم الصحافة بدورها الطبيعي في كشف الفساد وملاحقته. لكن المؤسسات الكبيرة في الصحافة «نامت في العسل»، وعاشت سنوات غيبوبة لم تتصدّ فيها إلى قضية فساد واحدة. كان صمت الصحافة هو العامل المساعد في إرساء دعائم دولة الفساد، وكان إفساد الصحافيين هو الضربة القاصمة للصحافة. لم يعد هناك فرق بين الصحافي ومندوب الإعلانات، وانفتحت الأبواب أمام مرتزقة الصفحات المتخصصة والمحظوظين من صحافيين موهوبين في النفاق وكتابة التقارير وفنون الوشاية.
انتهت صحافة البارونات بأساطير عن حجم الثراء. حكايات ولا ألف ليلة. لم تُقل من قبل عن صحافيّ. كانت أكبر شائعة عن محمد حسنين هيكل أطلقها أنور السادات، ومفادها أنه طلب في السجن صندوق مياه معدنية ماركة «ايفيان» الفرنسية. لكن ما يتردد اليوم هو أن رئيس تحرير يتقاضى شهرياً 3 ملايين جنيه. وحين أراد إبراهيم نافع الدفاع عن نفسه، قال إنه يتقاضى مليونين و 700 ألف جنيه في السنة، أي 200 ألف في الشهر. وأضاف أن هذا مبلغ قليل على من قضى 25 سنة في المهنة.
يقول هذا وهو الذي دخل «الأهرام» في 1962. أسرته في السويس لم تكن غنية لكي تضعه في قوائم المليونيرات. كما لم تكن هناك علامة على أنه سيصبح نجماً صحافياً. لم يكن من الممكن أن يظهر إبراهيم نافع في عصر غير الذي ظهر فيه، عصر حساب القيمة بالبيع والشراء.