توكيلات الاستبداد اختراع مصري. اعتمده نظام حسني مبارك وعاش به. الرئيس، الذي يقترب من نفسية الموظف، لم يكن صدامياً ولا زعيماً، لكنه محترف في تفكيك الدولة ليضمن تركيبها بطريقته. استبداد يعيش على خرافات، لكنه الآن أمام محك الخوف والمستقبل الغامض
وائل عبد الفتاح

جباية قطاع خاص

«الشوارع خالية»، الوصف بالطبع ليس دقيقاً في مدينة مثل القاهرة التي تشهد شوارعها ازدحاماً حتى ساعات متأخرة من الليل. لكن المقصود من الوصف أن حركة السير أقل من المعتاد. والأدق أن «وحوش الشوارع» اختفت أو كادت أن تختفي مع الأيام الأولى لتطبيق قانون المرور الجديد. الوحوش أنواع سيارات الأجرة والحافلات متعدّدة الأحجام.
اختفاء الوحوش غيّر شكل الشوارع، وأعطى انطباعاً بحالة استثنائية، وخصوصاً مع نزول «الرتب الكبيرة»، والمقصود ضباط المرور من رتب اللواء والعقيد والعميد. وهو حضور يشير إلى أن «حدثاً غير طبيعي» قد وقع.
وظل سائقو السيارات العابرة للميادين يسألون: «هو فيه ايه؟». ولم تكن هناك إجابة لأنه على بعد خطوات كانت الرتب الأدنى تمسك دفاتر وتسحب الرخص في مشهد معتاد أوقات الحوادث الكبيرة أو استعداداً لأحداث سياسية. وفي السنوات الأخيرة، ارتبطت هذه الحالة بإغلاق ميزانيات السنة المالية فتكون الحملات من أجل «الجباية».
تطبيق القانون الجديد لم يكن إلا موسم جباية جديداً أو إضافياً لخزانة الدولة (يقال إن الحصيلة في ٣ أيام فقط نحو ٧ ملايين جنيه أو ما يقرب من مليون وربع مليون دولار)، أو جباية إضافية لمافيا المخالفات الخصوصية التي تضم مختلف المستويات في شرطة المرور من ضباط وعساكر. لكن رتباء الشرطة هم القوى الفاعلة في خصخصة المخالفات ويفرضون تعرفة بوصفهم سلطة أعلى من الجنود العاديين وأقل من الضباط الذين يتفادون اللقاء المباشر مع جمهور يرضى بدفع «الرشوة» التي تماثل ربع المخالفة، وخصوصاً أنها تكون من دون إجراءات إدارية.
الحصيلة الأكبر لمافيا الجباية زادت بالتوازي مع زيادة الحصيلة الرسمية، وهو نوع آخر من الجباية كما يراها سائقو «الوحوش»، الذين يرون أن القانون موجه إليهم. وهذا صحيح، فهم الذين يصنعون فوضى الشوارع وهم الكتل الضخمة التي تفلت بأعجوبة من «سلطة» لها شكل رسمي، لكنها أضخم وأكثر اتساعاً من تنفيذ القانون القديم أو الجديد، الذي لم ير فيه سائق سيارة أجرة مغامر أكثر من «محاولة لجمع أموال. وتغليظ عقوبات. لكنه لن يحل مشاكل المرور. فالموضوع كبير. وكلنا نعرف أن القانون تغير لمصلحة واحد من الكبار».
السائق المغامر يشير إلى حقيبة الإسعافات الأولية التي دار جدل كبير حول ضرورة فرضها وقيل إنها «صفقة» لواحد من رجال السلطة.
وزارة الدخلية حذّرت من استخدام حقائب «غير مطابقة للمواصفات». ورغم إعطائها مهلة ٣ أشهر قبل تطبيق الغرامات، لكن يبدو أن الشرطة في بعض المحافظات لم يصلها قرار الوزير ونفذت غرامات الحقيبة بشكل واسع. «إنها الفوضى والعشوائية»، قال الرجل على المقهى، الذى روى تجربته مع شرطي مرور.
صاحب سيارة خاصة له حكاية أخرى: «وقفت في الممنوع. وكان المكان معتاداً بالنسبة إليّ. لكنني فوجئت بشرطي يطلب الرخصة، قائلاً إن الدستور الآن يسمح له بذلك. فملت عليه وقلت: طيب الدستور عاوز كام ويسيب الرخصة؟».
هنا انتهت المشكلة واستعاد صاحب السيارة مكانها المعتاد، بعدما وصلته رسالة السيطرة من «الحرس القديم» على «الأوضاع الجديدة». إن ما يحدث في الشوارع ليس سوى شدة «الغربال الجديد». ويرى سائق حافلة صغيرة أن الأوضاع ستعود كما كانت: «الأشخاص نفسهم لكن بأسعار أكبر».
التماثل بين «المرور» و«السياسة» في مصر كبير. الخبير مال إلى الأمام، وهو يؤكد: «هل عرفت الآن لماذا لا نريد تغييراً في الحكومة. التغيير سيبقى على الأشخاص أنفسهم أو يغير بعضهم. لكننا سندفع أكثر».
هذه مشاعر جمهور كبير يرى أن «الدولة المتسلطة» على حق دائماً، وأنها ما دامت قررت شيئاً فإنها لا تريد منه سوى «أموال إضافية» ثم تعود الأمور إلى نصابها. المهم من سيدفع؟ بالطبع الجمهور المؤمن بهذه الحكمة، فالآخرون الذين يفلتون من كل قانون وقادرون على حذف مخالفاتهم في المرور يملكون السيارات الفخمة. مخالفات هؤلاء يدفعها من لا يستطيع الوصول إلى أصحاب النفوذ. وهكذا ينضبط الإيقاع في الشوارع: الوحوش الفقيرة في مواجهة وحوش ثرية. يضبط الإيقاع أصحاب سلطة لديهم خبرة وحساسية في صنع «الاستبداد» والسيطرة. هؤلاء يحكمون الشوارع بطريقة لا بد أن تدرّس. فهم يملكون إصدار القوانين وتطبيقها، وبعد ذلك تخرج منهم شرائح بارعة في صناعة «بيزنس» تستفيد من قدرة أصحاب النفوذ على الإفلات من القوانين.
هكذا يصنع الاستبداد متاهته. ويترك على هامشها مساحة لجيل جديد تربى في رفاهية الثروات الضخمة. هم «رمز التجديد الحقيقي» فهم يريدون شوارع خالية. ويغيرون ماركات السيارات وأماكن المخالفات ويرفعون شعار «الفكر الجديد» في قيادة السيارات.
ماذا يفعل ممثل السلطة ورمزها (ضابط، عسكري) في صراع الوحوش؟ غالباً سيدير الصراع باتجاه استقرار الأوضاع من جديد بعد هزة القانون. لن تتغير أوضاع الشوارع بفوضاها وانفلاتها. ستتغير الأشكال بشكل ما. لكن تفكّك القانون لن يتأخر، ثم تعود فلسفة الخروج المنظم عن القانون. وهي فلسفة ترسخ الاستبداد وتجعله قدراً لا هروب منه. فالناس لا ترى مصلحتها في القانون. والنظام لا يطبقه إلا في اللحظات التي يريد الاستفادة منها. هذه العلاقة تقوي القبضة التي تبدو حالياً رخوة.
هذه القبضة الرخوة تحول الاستبداد إلى لعبة مثيرة. يتحول فيها أمين الشرطة إلى سيد الشارع. يفرض هيمنته ويمد شبكة مصالحه بقوة تجعل شكل سلطته يختفي ظاهرياً ويبقي الإحساس بها وبقسوتها في الوعي والعاطفة. أمين الشرطة هو تجسيد لصورة الرئيس. مستبد لكن قديم. يمارس قسوة وحنان للسيطرة على الجموع الفقيرة. ويواجه الجموع الغنية بالإتاوات والمناوشات التي تثبت أن السلطة موجودة في «خدمتك يا فندم».

الضحك على الرأي العام

ألغت حكومة أحمد نظيف إقامة مصنع «أجريوم». لكن المدهش أن القضية لم تنته بقرار الحكومة، الذي لم يكن إلا محاولة للضحك على الرأي العام في إطار محاولات ترويضه عبر استبداد متفرق

مصنع «أجريوم» هو مصنع سماد كندي كانت النية بإقامته في جزيرة راس البر «الساحلية التابعة لمحافظة دمياط». أهالي المدينة شنوا طوال الشهور الماضية حملات شعبية لمقاومة إقامة المصنع. والحكومة التي لم تتدرب على التعامل مع الرأي العام وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ مواقف لا تستطيع تنفيذها.
الحكومة خافت من الرأي العام وقررت أن تضحك عليه، فأعلنت بأكثر من طريقة إلغاء المشروع (وعد من الرئيس توصية البرلمان وأخيراً قرار رئيس الحكومة). لكن الحقيقة أن المشروع لم يتوقف، وهذا ما أعلنه في اليوم التالي مدير الشركة الكندية، مشيراً إلى أن الحكومة المصرية منحتهم حق الاستحواذ على أسهم شركة مصرية تملكها ومصنعها قرب مقر المصنع المشكلة.
أي إن الحكومة تحايلت لتوقف غضب الرأي العام. وهو الوحش الذي ولد فجأة من دون وعي ولا قنوات للتعبير عنه. النظام في اللحظات الحرجة يريد أن يضحك على الوحش، وهذا ما حدث في «أجريوم».
ولأن آليات تكوين الرأي العام ولدت من فوضى العلاقة بين النظام والمجتمع، فالنظام اخترع نوعاً من الاستبداد المتفرق لترويض الرأي العام. ولأن الإعلام هو القوة الدافعة للرأي العام، فإن الحكومة تسعى إلى حصاره. تغلق مساحة الحرية التي نمت فيها قوة المجتمع. صحيح أنه نمو طفيف. لكن النظام لم يتعوده. فالدولة في مصر لم تتخلص من الاستبداد. تغيرت توجهاتها من الاشتراكية إلى الانفتاح، ومن الحزب الواحد إلى تعدد الأحزاب، وهواها واحد: الاستبداد وجمع كل شيء في يد شخص واحد يمنح توكيلات لأشخاص يثق فيهم ليديروا مؤسسته المسيطرة.
أنس الفقي (وزير الإعلام) حصل على توكيل البث وإدارته. التوكيل هو وحدة استبداد صغيرة لا تشبه مؤسسة الاستبداد الكبيرة فقط، لكنها تمارس الاستبداد يومياً على طريقتها. أنس الفقي آمر وناهٍ في مجال البث، لكنه أدرك أن النظام في لحظة مختلفة، ويريد مزيداً من الاستبداد، فاخترع، بمساعدة خبير آخر هو مفيد شهاب، جهازاً فريداً للرقابة. له أولاً طبيعة أمنية وثانياً خاصية عجيبة لم توجد إلا في روايات كافكا وصنع الله إبراهيم، وهي أنه سيعاقب على جرائم غير محددة. تحديدها عند الجهاز وحده. الجهاز من حقه اعتبار أي كلمة وصورة جريمة، ومن حقه ألا يعتبرها. وحده يعرف ووحده يحبس ووحده يرسم ممنوعات لا يتخيلها عقل. القانون يثبت «شطارة» المنفذين وبراعة مفصّلي القوانين في توليف قانون من قوانين منقرضة، وغالباً مرجعيتها زيمبابوي أو واحدة من دول لا تزال تمارس الاستبداد الخام.

الخوف من حرب الآلهة

الصحافة في مصر تبحث عن أي شق في الجدار لترى ما يحدث خلفه. ومجرد كلمة عابرة قالها جمال مبارك في حوار مع مجلة «السياسة الدولية» الفرنسية فتحت ملفات الكلام عن الخلاف بين الأب والابن؟ عن توازن الرعب في قصر الرئاسة. جمال مبارك قال: «إذا لم نحسن أحوال المصريين بعد سنتين، فعلينا أن نكون شرفاء أمام أنفسنا وأمام الرأي العام ونعترف بفشلنا». ماذا تعني كلمات جمال مبارك؟ هذا ما شغل الصحافة ودفع أيمن نور من محبسه للتساؤل في «الدستور»: «هل هذا الكلام تلميح إلى أن الرئيس مبارك سيتقدم باستقالته قبل نهاية ولايته؟». الصحيفة اتخذت من أسئلة المعارض المعتقل عنوانها الكبير، وأضافت له: هل جمال مبارك هو عدو الرئيس مبارك؟
التلميحات ليست جديدة على صراع في السلطة. وشهوة الابن في الوصول سريعاً إلى مقعد الأب طويل العمر. وهناك تصور شائع ينتظر بين لحظة وأخرى الإعلان عن عجز مبارك عن الحكم وإعلان حكومة انتقالية تجري بعدها انتخابات يفوز بها جمال مبارك.
التصور يتعامل على أن سيناريو وصول جمال إلى الرئاسة هو القدر المقبل. قدر لا رادّ لقضائه. وهذه لعنة السلطة في مصر. تحولت إلى صراع أقدار. المعارضة تتصور أن السياسة هي مناقشة (مجرد المناقشة) لاسم خليفة الرئيس أو لصراع مؤسسة العائلة مع مؤسسة الجيش. تخيل يثري الخيال الباحث عن دور في لعبة الأقدار.
اختيار الرئيس ليس من صنع الناس. ولا يتوقع المصريون أنهم يختارون رئيسهم. إنه يأتي كالقدر. والناس يتابعون من بعيد مباراة الآلهة في تحديد الرئيس.
الخرافة في الدستور هو أن الرئيس منتخب. والخرافة في الواقع هي الحرب في القصر. فالنظام في مصر أقوى من الدولة. وهذا ما يجعل مبارك يبدو من بعيد قوياً يعرف أنه لن يتغير. لكنه خائف من الخلافة أو الوراثة أو الأيام التالية لغيابه.
الأب خائف من ضياع سيادته المطلقة. والابن خائف من غياب الأب قبل إتمام سيناريو صعوده إلى الرئاسة. الخوف هو محرك القرارات في السلطة. وغريزة البقاء هي عقيدة كل رجال النظام. كلهم يحاربون من أجل اقتناص أكبر مساحة من تركة الرجل المريض. والمريض يشعر بالقوة من طول الاستمرار والضعف من هجوم المرض والعمر الطويل. وبين القوة والضعف تكبر شراسة غير مسبوقة وتتحول إلى حرب على كل شيء. حرب مخيفة وضحاياها بالملايين. الرعب من المستقبل يتحكم في حركة الحياة، ويرسم ملامح اليأس والشراسة على وجوه يعرف أصحابها أن أياماً صعبة آتية وستنتهي معها أسطورة أن في مصر لا أحد يموت من الجوع.