غياب الثقة بالحكومة يعيد الاعتبار للزراعات «الممنوعة»رامح حميـة
تراكمت خسائر المزارعين البقاعيين في السنوات العجاف الماضية، وبات معظمهم يعجز عن النهوض من تحت نير الديون المتراكمة...
فمن أضرار حرب تموز وتداعياتها، إلى العوامل الطبيعية القاسية التي أتلفت مساحات كبيرة وأنواعاً عدة من المزروعات والمحاصيل، وصولاً إلى ضيق أسواق البيع والتسويق والتصريف، وغياب حماية الإنتاج المحلي... يبرز الإهمال الرسمي بصورة فاقعة تجسّدت بعدم دفع التعويضات والمساعدات للمزارعين المتضررين، ما أدى إلى فشلهم في محاولات احتواء الأضرار التي ألمّت بهم.

مساحات كبيرة من الحشيشة

وترتفع أصوات المزارعين اليوم احتجاجاً على تقاعس الدولة وإهمالها لهم، وسط دوامة من المعاناة المتكررة، وفي ظل غياب أي خطط للنهوض بالقطاع، قرر معظم المزارعين الكفّ عن رفع المطالب، والتحوّل بشكل شبه كلي إلى زراعة ما تعتبره الدولة «ممنوعات» ولا سيما حشيشة الكيف التي باتت تغطي مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والجردية، فضلاً عن الأفيون، و«على عينك يا تاجر»، بحسب ما يقول أحد المزارعين في نبرة تحدٍّ تنم عن المعاناة التي يمر بها.
ويقول أحد المتابعين لملف زراعة الحشيشة إن المزارعين يقبلون على هذه الزراعة على مضض، إذ إنهم استبشروا خيراً عندما خرج وزير الإعلام غازي العريضي من جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 12 أيلول 2007 ليتلو مقرراتها، مشيراً إلى «أن الرئيس فؤاد السنيورة أثار في الجلسة موضوع التخلص من الزراعات الممنوعة والبحث عن زراعات بديلة، مؤكداً أن الأمر سيدرس ويعالج بحكمة وحزم من دون حصول إشكالات».
لقد تلقّى المزارعون البقاعيون الخبر بتفاؤل، معتقدين أن بعض المزارعين الذين أقدموا على زراعة الممنوعات قد دفعوا الحكومة إلى التفكير الفعلي في دراسة أوضاعهم وتأمين الزراعات البديلة التي لا تزال «منتظرة» منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم، إضافة إلى دفع التعويضات عن الخسائر التي تعرّضوا لها، لكن الزراعات البديلة لم تأت وكذلك التعويضات، وأمام كل هذا لا يجد المزارع البقاعي مفراً من اللجوء إلى الزراعات الممنوعة بغية تأمين عيشه، من دون الاضطرار إلى شرب الكأس المرّة وبيع أرضه والنزوح نحو أحزمة البؤس التي تلفّ المدن بحثاً عن أي وظيفة متاحة.

الزراعات التقليدية لم تعد مجدية

ويشير قاسم زعيتر، أحد مزارعي البطاطا والتبغ في البقاع، إلى أن الزراعة التقليدية من قمح وبطاطا وغيرها والتي يعتمد عليها البقاعيون منذ تسعينيات القرن الماضي «باتت تشكل انتحاراً مادياً وإفلاساً حتمياً» في ظل انعدام الاهتمام الرسمي الداعم والمساعد، واستعرض زعيتر انتكاسات المزارعين منذ ثلاثة أعوام مضت والخسائر الفادحة التي أنهكتهم ودفعت الغالبية منهم إلى بيع قسم من الأراضي التي ورثوها عن أهاليهم، وأضاف «حتى اليوم لم يلتفت إلينا أحد بتعويض أو دعم، وأعتقد أن الدولة بتطنيشها وممارساتها تدفعنا، وإن بشكل غير مباشر، إلى زراعة ما حرّموه علينا ولم يقدّموا لنا بديلاً منه»، وتابع زعيتر «البديل لزراعة الممنوعات كان الزعفران، إلا أن الحكومة لم تدعم هذا البديل ولم توفّر الإرشاد الزراعي لتبنّي هذا النوع من الزراعة المكلفة، وهذا ما أسهم في قرار معظم المزارعين بالعودة إلى زراعة الحشيشة في هذا الموسم والموسم المقبل أيضاً، وربما ستنتشر زراعة الأفيون ما لم تسارع الدولة إلى معالجة ملف الزراعة بشكل جدّي».

العودة بعد غياب طويل

بدوره، التزم أبو علي يونس (مزارع حشيشة منذ عام 1972) قانون حظر زراعة المخدرات، وتحوّل إلى زراعة التبغ والفاكهة، ويقول من دون أي شعور بالحرج، وهو يقف في مكان مطلّ على أرضه، «هيدي الأرض كلها كانت تزرع بالأفيون والحشيشة، ومنذ ربع قرن لم تزرع بالممنوعات بل قمحاً وتبغاً وبطاطا»، ساخراً من البديل الذي أرسلته الدولة لمزارعي البقاع وهو الكستنا، «التي أخبرونا أنها تحتاج إلى 13 سنة حتى تعطي إنتاجاً. يعني أن أولادي سينتظرون 13 سنة حتى يأكلوا ويتعلموا!!».
وشرح أبو علي أن العوامل الطبيعية والأكلاف الجديدة الباهظة أنهكت المزارع نتيجة «سياسة رفع يد الحكومة عن الدعم، إضافة إلى غياب التعويضات والتخلّي عنا»، متسائلاً: «كيف بدّو يعيش المزارع وعيلته إذا كانت كلفة كيلو التبغ 8500 ليرة، وعند تسليمه في إدارة حصر التبغ والتنباك يتم تسعيره بـ9000 ليرة»، وأكد يونس أن «المزارع ما عم يشحد من الدولة، بل يطالب بحقه فقط بتعويض عن خسائره الفادحة والمتلاحقة»، مشيراً إلى أن الحكومة لم تلحظ ببيانها ما يشير إلى اهتمام الدولة بنا». والحل برأيه «طالما أنه لا أمل بأن تقوم الحكومة بمساعدتنا ودعمنا فلن يكون ثمة حل إلا بالعودة إلى المحظور وزراعة الممنوعات، وإن خالفنا الشرع والدين، لأنو ما في حدا بيقبل يموتوا اولادنا من الجوع أو ما يتعلموا»!

مداخيل تسد الحاجة

وفي مكان ما في سهل البقاع، يقف أحد المزارعين الذي تخطّى زملاءه وزرع العام الجاري أراضيه بنبتة حشيشة الكيف، مبدياً عدم ثقته بالدولة وحلولها «اللي إيدو بالنار مش متل اللي إيدو بالمي»، ويتابع «من بعد نفسي وعيلتي ما ينبت حشيش، وعود الدولة لم نعد نثق بها سواء بالزراعات البديلة التي ما زالوا يبحثون عنها منذ عام 1992، أو بالنسبة إلى تعويضات تموز والصقيع عام 2007»، مشيراً إلى أنه زرع أكثر من 15 دونماً من الحشيشة، وتعدّ هذه الكمية كفيلة بتأمين مدخول كافٍ لي ولعائلتي ولمصاريفي في شهر رمضان ومتطلبات فصل الشتاء المقبل، دون أن أكسر نفسي لأي شخص وأطلب الاستدانة منه».
إلا أنه عاد وأكد «أن لديه الثقة فقط برئيس الجمهورية، العماد ميشال سليمان، وقال: «لو أشار الرئيس إلى إتلاف الحشيشة وضمن لنا المساعدة والدعم، فالجميع سيلتزمون بإتلافها».


1920

هي السنة التي دخلت فيها زراعة حشيشة الكيف إلى البقاع، ولا سيما إلى بعلبك ـــــ الهرمل، واستمرت حتى عام 1994 عندما قررت الحكومة إرضاءً للولايات المتحدة القضاء على هذه الزراعة من دون توفير البديل


خياران لا ثالث لهما