توقّف جَلد من يشرب أو يبيع الكحول في البصرة. ظاهرة جديدة تعكس اتجاهاً نحو «تسوية ودّية» مع دعوات التزمُّت الديني، التي نادت في السابق بحظرها
بغداد ــ زيد الزبيدي

«أم المعارك» ضدّ الكحول دارت في البصرة. مدينة انطلق منها الحزب الشيوعي العراقي ومعظم الحركات التنويريّة العلمانيّة، لتخضع في النهاية لسيطرة القوى الدينية المتشدّدة بعد الاحتلال عام 2003. ميليشيات منعت بيع المشروبات الروحية واحتساءها، من ضمن لائحة طويلة من الممنوعات طالت محال بيع الأسطوانات الموسيقيّة والمسارح وكل ما يمتّ إلى الثقافة بصلة.
وكانت ساحات المدينة الجنوبية قد شهدت عمليات جلد علنية، لمن ثبت أنه يبيع أو يشتري أو يشرب الكحول، وفق «محاكم شرعية» في الساحات العامة. غير أنه بعد حملة «صولة الفرسان» على أنصار التيار الصدري، والفسحة التي خلقتها الظروف الأمنية الجديدة، عادت بعض محال الكحول لفتح أبوابها، وإن بخجل.
الجهات الدينية والرسمية المتنفّذة في المدينة، خاضت طويلاً حملة هوجاء لمنع عودة الكحول، هدّدت فيها بـ«قمع» هذا التوجّه، معلنة أن «ما يطبّق في بغداد (من قرارات حكومية بعدم تجريم تعاطي الكحول) لا يسري بالضرورة على غيرها من المحافظات»، وأنها «ستعاقب المخالفين بمقتضى القانون»، رغم أنه لا يوجد أي مادة قانونية في هذه النقطة، أو تحدّد عقوبة ما على ذلك.
حملة أثارت ضجّة كبيرة معارضة، شارك فيها بعض مستشاري رئيس الوزراء نوري المالكي، وأثارت انتباه المراقبين إلى أن الحكومة تخلع تدريجاً الرداء الديني الذي تفاخرت به عند تسلّمها السلطة.
ومن دون إعلان رسمي، أوقفت القوى المحلية، أو ما يشار إليه بـ«حكومة البصرة» نظراً لنفوذها في المدينة، فجأة الحملة المذكورة، وغضّت الطرف عن القضايا المرتبطة بالكحول.
وكان لما حدث في المدينة الجنوبيّة تأثيره في العاصمة بغداد، التي وإن كانت السطوة الدينية فيها أقل وطأة، إلا أن الكحول غابت عنها أيضاً منذ الغزو.
وشجّعت تجربة البصرة البغداديّين على إعادة افتتاح محال بيع المشروبات، وخاصة في مناطق الصالحية والسعدون وشارع أبي نوّاس والباب الشرقي. كما عادت بعض النوادي الثقافية والاجتماعية إلى تقديم المشروبات، مثل اتحاد الأدباء ونادي الإعلام ونوادي بعض الجمعيات الأخرى، بعدما كان ذلك محرّماً ونادراً في الماضي.
ورغم التحسّن النسبي في التمتّع بهذه الحرية الشخصيّة، لا يزال فتح الأماكن المخصَّصة للمشروبات يجري بحذر شديد، ويحتاج إلى موافقات رسمية متعددة وموافقة ضمنية من قوى «الأمر الواقع».
ولا يخلو غياب الحانات من «مساوئ كبيرة»، تذكّر إلى حدّ ما بظاهرة الشرب في الساحات العامة، عندما منع النظام العراقي السابق تناول المشروبات في النوادي المخصصة لذلك. لكن نظام صدام حسين، عاد وخفّف من القيود التي فرضها على تلك النوادي، وسمح ببيع وتعاطي المشروبات فيها، شرط «عدم الإجهار».
والمشهد نفسه يتكرر اليوم في بغداد، إذ يدور الحديث عن «منتديات الشوارع العامة»، وجسر الجادرية، أو كورنيش شارع أبي نوّاس، حيث إن هذه الأماكن هي الأكثر شهرة لتناول المشروبات الروحية علناً، علماً بأن كورنيش أبي نوّاس في منطقة الكرادة الشرقية يقع في مواجهة مقرّ المجلس الأعلى الإسلامي من جهة، والسفارة الأميركية من جهة أخرى. أما جسر الجادرية فيطل على مجمع القادسية الوزاري الذي يشغله الآن برلمانيون وقادة أحزاب وسياسيون.
ويلاحظ زائر جسر الجادرية مساءً، تجمع العديد من السيارات على جانبي الجسر، فيما يصطف عدد كبير من الشباب على حافته القريبة من النهر وهم يتناولون المشروبات، وكأنهم في نادٍ خاص، أو إحدى حدائق شارع أبي نوّاس.
والتقت «الأخبار» عدداً من سكان المنطقة لأخذ تعليقهم حول الموضوع، حيث قال أحدهم: «لندعهم يفعلون ما يشاؤون، بالنتيجة إنهم يشعرون بالأمان أكثر، ويلجأون إلى هذا المكان بعدما سدّت في وجوههم الأماكن المعتادة التي كانوا يرتادونها».
وركّز رأي شخص آخر على أنّه لا مانع من أن «يمارسوا ما يريدون، ولكن في المكان المناسب، لأن هذا استفزاز لمشاعر الآخرين الذين يؤمنون بأننا في بلد إسلامي وعلينا الالتزام قدر الإمكان بتقاليدنا».
وشدّد مواطن ثالث، على أن «لكل شخص أن يمارس حريته بالشكل الذي يراه، كفانا نضغط على حريات الآخرين، ونقودهم وفق ما نراه قسراً».
ثم علّق أحد الصحافيّين على النقاش المحتدم بالقول: «أعتقد أن الحرية لا يجب أن تتناقض مع تقاليد المجتمع وسلوكه، ومن الجميل ألا تتحول الأماكن التي يفترض تخصيصها لنزهات عائلاتنا إلى مراتع لتناول المشروبات بالشكل الذي يضغط على حريات الآخرين».