لأنّ الاحتلال الأميركي للعراق استفاد من الخبرات الاستعماريّة عبر التاريخ، أدرك أنّ الطريقة الفضلى لتأبيد احتلاله، تكون عبر ربط الاقتصاد المحلّي بوجوده. العراق اليوم نموذج، بعيداً عن ثرثرات الاتفاقية الأمنية وجدولة الانسحاب...
بغداد ــ زيد الزبيدي
بدأت القوات الأميركية في العراق تطبيق خطّة طويلة الأمد، تستهدف إيجاد فئة من العراقيّين، من تجّار وصناعيّين ورجال أعمال وحرفيّين، يرتبطون اقتصادياً بالاحتلال وتتوقف معيشتهم على بقائه. فئة مكتوب لها تقديم الإمدادات والتموين الضروريّين للقواعد الأميركية وجنودها، بدلاً من استيرادها من الخارج.
وإذا كان لا بدّ من تقديم استنتاج لا لبس فيه انطلاقاً من هذه الخطّة، فهو أنّ «الضيوف الأميركيّين» عازمون على البقاء إلى أمد غير محدّد في بلاد الرافدين.
وهنا يتفق كثيرون على أنّ التصريحات الأميركية والعراقية، التي تصاعدت أخيراً بشأن جدولة انسحاب قوات الاحتلال تحت عنوان الاتفاقية الأميركية ـــــ العراقية، تبقى محصورة بحملة انتخابات الرئاسة الأميركية، لا أكثر.
وتقوم الخطة الأميركيّة الجديدة على مساعدة مواطنين عراقيين بإنشاء مدن صناعية وتجارية، تعتمد بالأساس على الاستهلاك الأميركي، ويمكنها التمدّد «بحسب جودة المنتجات» إلى داخل المدن والأسواق العراقية، لكسب زبائن يرتبطون بالمجمعات التي بدأ الاحتلال بإنشائها، بإدارة عراقية، تؤدّي في الوقت نفسه، دور «حاجز الصدّ» في وجه أيّ خطر أمني قد تتعرّض له تلك القواعد.
وكشف مدير التعبئة والأفراد والموارد في القوات «متعدّدة الجنسيات»، اللواء تيموثي ماكهيل، عن تخصيص 4 مليارات دولار «لمواجهة العنف بصورة غير مباشرة»، من خلال تشجيع إقامة مشاريع حرفية بالقرب من القواعد العسكرية، وزيادة الاعتماد على القدرات والمنتجات المحلية في توفير احتياجات تلك القوات، «لإنعاش الاقتصاد الوطني، وذلك بالاتفاق مع الحكومة العراقية».
وكشف ماكهيل، في مؤتمر صحافي عقده في بغداد قبل فترة، لم يحظَ بتغطية إعلاميّة كبيرة، عن بدء تنفيذ المشروع الأميركي وتخصيص دفعة أولى قيمتها 4 مليارات دولار لمجمّعي «العراق أولاً» و«منطقة الصناعة العراقية»، بالقرب من القواعد العسكرية الأميركية.
وأوضح ماكهيل أن هذا المشروع يهدف الى «مواجهة الإرهاب بصورة غير مباشرة، من خلال دعم الاقتصاد وامتصاص البطالة».
ويرى مراقبون أنّ أهمّ ما في هذا الإعلان هو أنه أكّد التنسيق والاتفاق مع الحكومة العراقية، ليكون إشارة إلى تفاهم (بعكس ما هو معلَن عنه) على بقاء غير محدود زمنياً لقوات الاحتلال، وخصوصاً أن الحكومة العراقية، بميزانيتها الضخمة وبمواردها النفطيّة، ليست بحاجة إلى الاعتماد على مشاريع من هذا النوع لدعم الاقتصاد من خلال تجهيز القواعد الأميركية وتموينها.
في المقابل، اعترف ماكهيل بأنّ قائد قوات الاحتلال في بلاد الرافدين، الجنرال ديفيد بيترايوس هو صاحب الفكرة، وأنه «وجّه قادته العسكريين إلى العمل المشترك مع المواطنين العراقيين من أصحاب المهن الحرة، وشراء البضائع والمنتجات منهم».
وبحسب مراقبين، فإنّ تخصيص الأراضي لهذا المشروع سيضمن «جاراً آمناً» للمحتلّ. وقد يعتقد البعض أنّ مثل هذه الخطوات «تخطيط مستقبلي افتراضي»، إلا أنّ الوقائع تشير إلى عكس ذلك، حيث بدأ مشروعا «العراق أولاً»، و«منطقة الصناعة العراقية» بالعمل الفعلي، على حدّ تعبير ماكهيل، الذي لفت إلى أنّ العديد من الحرفيين العراقيين أنشأوا بالفعل «مشاريع صغيرة متمثلة بالنجارة والحدادة والسباكة والبناء والترميم والكهرباء، بالقرب من القواعد العسكرية الأميركية».
ورغم أنّ المسؤول الأميركي لم يفصح عن المكان الذي أنشئ فيه المشروعان، غير أنّ اقتصاديين عراقيّين يرجّحون أن يكونا في شمال بغداد وغربها.
وذكّر ماكهيل أنّ مديرية التعبئة والأفراد والموارد في قواته «صرفت مبلغ 182 مليون دولاراً لشراء البضائع العراقية، ومنتجات المواد الإنشائية والمكتبية»، لافتاً إلى أنّ هذا المبلغ أسهم في «إعادة الحياة لـ200 من معامل البلاستك العراقية المتوقفة عن العمل» منذ الغزو عام 2003.
كما شدّد المسؤول العسكري الأميركي على أنّ «هناك توجهاً قوياً للاعتماد بنحو أكبر على المنتجات العراقية في توفير مختلف حاجات القوات متعددة الجنسيات في أنحاء البلاد».
وعن الأراضي التي ستُخَصَّص للراغبين بتنفيذ هذه المشاريع، أوضح ماكهيل أنّها «لن تكون بصيغة الاستملاك، بل ستخصّصها لهم الحكومة، لتمكينهم من تنفيذ مشاريعهم لمدة معينة، على أن تُعاد إلى الحكومة العراقية في المستقبل».
ويمكن من خلال تلك الملاحظة، قراءة معنى عبارة «المدة المعينة»، إذ لا أحد يجازف ويستثمر أرضاً ويبني عليها مشروعاً صناعياً ضخماً، ليعيدها إلى الحكومة بعد أقل من 10 سنوات أو 20 سنة على الأقلّ، ولا سيما أنّ المستملكين يكونون مرتبطين بتعاقدات تجعلهم في وضع الخطورة، مع بقاء القوات الأميركية، وحتى في حال رحيلها.


عشائر في خدمة المحتل وبحسب راديو «سوا» الأميركي، فقد بادر شيوخ العشائر إلى تقديم عرض من «شبكة النقليّات العراقيّة» لنقل شحنات وحمولة الجيش الأميركي في جميع أنحاء العراق، متعهّدين بذلك ضمان وصولها بسلام كاملة، ومتحمّلين المسؤوليّة الماليّة كاملة عن أي خسائر.
وتُعدّ تجربة شبكة النقليّات العراقيّة، الأولى من نوعها منذ نحو 40 عاماً، لبناء شركة خاصّة بالدعم اللوجستي في البلاد، حيث تقوم الشبكة بنقل الشحنات والحمولة «المنخفضة القيمة»، التابعة لجيش الاحتلال، من وإلى قواعد مختلفة للعمليّات المتقدمة في أنحاء العراق.
ويقول القائد في البحرية الأميركية كين تيتكومب، وهو الضابط المسؤول عن تحركات شبكة النقليّات العراقيّة لقوّات الاحتلال، «بالنسبة إلى العراق، فإن ذلك الشكل من شبكة الدعم اللوجستي مهم جدّاً لتمكين الاقتصاد العراقي من النهوض، والهدف هو أن تصبح عائدات الشبكة من الخدمات التجاريّة لا العسكريّة، ونأمل أن توفّر تلك الشركة العديد من فرص العمل وأن تكون عاملاً رئيساً في ازدهار الاقتصاد العراقي».
هو اقتصاد بات مفروضاً على القائمين عليه، يخفض الدعم والإنفاق على المواد الاستهلاكية بطريقة تصاعدية إلى أن يصل الى إلغائه، إضافة إلى خفض الدعم عن الشركات المملوكة للدولة، وهيكلتها، وتوفير المزيد من الدعم للقطاع الخاص، تسهيلاً لدخول العراق منظمة التجارة العالمية.