محمد بديرالبحث في خلفيات مناورة الجبهة الداخلية التي أجرتها إسرائيل وأهدافها أمر لا بد منه. تكمن أهميته في استشراف نوايا تل أبيب حيال جبهات الصراع الساخنة معها، حرباً أو «حرباً باردة». لا يقلّ أهمية عن ذلك، البحث في السياق الذي تأتي فيه المناورة، وهو سياق يجسد إقراراً إسرائيلياً ضمنياً بسقوط عقيدتها الأمنيةانشغلت إسرائيل على مدى الأسبوع الماضي بالمناورة العملاقة التي أجرتها لاختبار جهوزية جبهتها الداخلية في الحرب المقبلة. مناورة حاكت كل أشكال التهديد المحتملة التي يمكن أن يتعرض لها الداخل الإسرائيلي خلال مواجهة مفترضة، بدءاً بعمليات «موضعية» قد ينفذها فلسطينيون ضد أفراد إسرائيليين، مروراً بصليات صاروخية كثيفة على بلدات ومدن في العمق، وصولاً إلى ــ وهذا أخطر السيناريوهات التي جرى التدرب عليها ــ كيفية التعامل مع هجمات بالأسلحة غير التقليدية على تجمعات سكانية حاشدة.
قيل الكثير في مقاربة خلفيات المناورة. أصرّت تل أبيب على أنها استعداد طبيعي لحرب مستقبلية قد تحصل أو لا تحصل، وتسعى لأن تكون جاهزة لها، فيما قرأ فيها أعداء إسرائيل إعداداً لحربٍ مُقرّة، تحضّر تل أبيب وحليفتها الكبرى الولايات المتحدة، لشنها في موعد ما من هذا العام على واحدة، أو أكثر، من جبهات الصراع الساخنة: إيران، لبنان، سوريا وغزة.
تستشهد إسرائيل على صحة زعمها بأن المناورة هي الحلقة الثانية ضمن سلسلة مناورات أُقرّت مسبقاً، وتشير إلى أن الأولى حصلت في آذار من العام الماضي تحت اسم «نقطة تحوّل». في تقديم هذا التعليل، تُغيِّب الرواية الإسرائيلية حقيقة أن الإعلان عن المناورة لم يتم إلا قبل أشهر، وأن ربطها بمناورة العام الماضي جاء استلحاقاً على الأظهر، وتم تدراكه من خلال الاسم الذي أطلق عليها «نقطة تحوّل 2».
كما يستند المساجلون في براءة النوايا الإسرائيلية من وراء المناورة، من بين جملة أمور، إلى مدى الحيوية التي أولتها تل أبيب لإجرائها في هذا التوقيت، مخاطِرة برفع منسوب التوتر الإقليمي من جهة، ومنسوب الهلع وسط جمهورها، من جهة أخرى.
أياً كانت الحقيقة، ثمة متغير، يمكن وصفه بالاستراتيجي، لم يحظ بوقفة تأمل يستحقها وسط المعمعة القائمة بشأن أهداف المناورة. يتصل هذا المتغير بمنطق المناورة من حيث الأصل، لا بغاياتها المفترضة، ويمكن صياغته على النحو التالي: إن إجراء تل أبيب مناورةً بهذا الحجم والكيف، إنما يكشف في جوهره غير المعلن إقراراً ضمنياً لدى دوائر التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي بسقوط مدوٍّ لعدد من مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي سادت منذ تأسيس الكيان قبل ستين عاماً.
آنذاك، واجه جيل المؤسسين، على رأسهم دافيد بن غوريون، معضلة الدونية الجيو ـــ استراتيجية لإسرائيل قبالة أعدائها، المتجسدة في ضيق المساحة وانكشاف العمق (إضافة إلى قلة عدد السكان). الحلول التي تمت بلورتها حيال ذلك، تمحورت حول جملة من المبادئ كوّنت مجتمعة ما يطلق عليه في إسرائيل توصيف «العقيدة الأمنية». من أهم هذه المبادئ: الردع، الحرب الاستباقية، نقل المعركة إلى أرض العدو، الحسم السريع للحرب، التفوّق النوعي في مقابل التفوّق الكمي، إلخ.
لكل من هذه المبادئ مبرره الخاص في المنطق الاستراتيجي، إلا أنها جميعاً تلتقي عند دائرة تداخل واحدة هي: تحييد الجبهة الداخلية في أي حرب. في هذا السبيل اعتُمدت، كما يتضح من المبادئ المذكورة، مقاربة تقوم على المبادرة الهجومية، لا على التصدي الدفاعي، وقد وجد هذا الأمر تعبيره في بناء مكوّنات القدرة العسكرية الإسرائيلية التي أعطت الأولوية للعناصر الهجومية على حساب العناصر الحمائية.
يمكن القول إن تاريخ حروب إسرائيل عُدّ، بصورة أو بأخرى، تكريساً تراكمياً لفاعلية المبادئ المذكورة وصحة الرهان عليها... إلى أن جاءت حرب تموز 2006. هذه الحرب كانت بالكثير من المعاني حرب المرات الأولى. فهي الأطول في حروب إسرائيل، كما أنها الأولى التي خيضت بهذة الدرجة من الكثافة في مقابل «منظمة تضم بضعة آلاف من المقاتلين» بحسب تعبير تقرير فينوغراد، وهي تعدّ سابقة لجهة تعرّض العمق الإسرائيلي لهذا المستوى من الانكشاف أمام العدو.
«عِبَر الحرب»، هي المرتكز الذي تستند إليه إسرائيل في تبرير مناورتها العملاقة؛ فخلال الحرب المذكورة، تظهّرت بأقسى صورها خطورة وضع الأجهزة المسؤولة عن التعامل مع الجبهة الداخلية ومستوى الفشل في أدائها. ثمة تحقيقات مطوّلة أجريت بشأن هذا الإخفاق في إسرائيل، بيد أن أياً منها لم يشر إلى أن وضع هذه الأجهزة هو في الواقع الصورة السلبية للرهان على نجاح العقيدة الأمنية الإسرائيلية في الماضي. قبل تموز 2006، لم يشعر أحد في إسرائيل بضرورة تفعيل هذه الأجهزة، لأنه، من الناحية الفعلية، لم يشعر بالحاجة إلى ذلك. فالحرب إن وقعت، ستكون ساحتها، كما جرت العادة، أرض العدو، والجرعات «العدائية» التي ستضطر الجبهة الداخلية إلى ابتلاعها ستكون محتملة لجهة الحجم والنوع والمدة.
هذا كان قبل تموز 2006. أما في أعقابه، وبسبب ما حصل خلاله، فتحوّلت الجبهة الداخلية في إسرائيل إلى جبهة أمامية. بهذه البساطة تهاوت مسلّمات الماضي. استجّدت الحاجة إلى إعادة النظر في فرضيات اعتادت إسرائيل أن تغفو مطمئنة على جناح صحتها المثبتة، ومعها الحاجة إلى إعداد الجبهة الداخلية بما ينسجم مع إعادة النظر هذه.
يمكن القول، من دون خوف الوقوع في المبالغة، إن هذا السياق هو الأوحد لتفسير جوهر «نقطة التحوّل الثانية» التي اختبرتها إسرائيل قبل أيام. وهو سياق يمكن الوقوف فيه على محطات أخرى تتماهى، من حيث الموجبات النظرية، مع المناورة. من هذه المحطات مثلاً: بناء الجدار الفاصل مع الضفة الغربية، وتركيز الجهد على تطوير أنظمة للاعتراض الصاروخي، والإبقاء على الكمامات في حوزة الإسرائيليين، وغير ذلك.
الخط البياني الذي يرسمه هذا السياق بلغ ذروته مع المناورة، وهو يوضح بطريقة لا تقبل اللبس أن إسرائيل سلّمت بأن جبهتها الداخلية ستكون جزءاً عضوياً من ساحة عمليات أية مواجهة مقبلة، ولا إمكان للحؤول دون ذلك، لا بالضربة الاستباقية، ولا بالحسم السريع، المتعذر، للحرب، ولا بأي تفوّق نوعي عسكري يمكن أن تحوزه.
إلى ذلك، يمكن التأكيد أنها سلّمت أيضا بأن ما نجح حزب الله في فعله على مدى 33 يوماً من «التنكيل» الصاروخي بجبهتها الداخلية، قد يكون عيّنة مخبرية قياساً إلى حجم ما يمكن أن تتعرض له هذه الجبهة حال اندلاع مواجهة مع دول كإيران وسوريا. يمكن استنتاج ذلك من السيناريوهات التي حاكتها المناورة: سقوط نحو ثلاثة آلاف صاروخ، بعضها غير تقليدي، في خمسة أيام، حصادها 200 قتيل و3000 جريح.
في ختام المناورة، انطلقت ورشة التقويم لنتائجها. لنقل إنها نجحت، كما يدّعي البعض. نجاح لا يتجاوز قدرتها في الحرب المقبلة على لمّ قتلاها وجرحاها من شوارع حيفا وتل أبيب وعسقلان.


معلومات سريّة إسرائيليّة على «فايس بوك»
كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، أمس، أن عشرات وربما مئات الصور التي تحتوي معلومات سرية خاصة بالجيش الإسرائيلي نشرت على موقع «فايس بوك». وأشارت إلى عشرات من الصور نشرها جنود حاليون وسابقون في الجيش الإسرائيلي تظهر داخل القواعد العسكرية وخارجها، بالإضافة إلى أبراج التحكم بالنقل الجوي وتجهيزاتها الإلكترونية، إلى جانب أنظمة أسلحة للسلاح البحري وعدد من الأسلحة التي تستخدمها وحدات المشاة. وتبدو في الصور أيضاً أسماء وأعداد وحدات المشاة والاستطلاع ومراكز التدريب والتعليمات على القتال وغيرها.
وقالت وزارة الدفاع الإسرائيلية للصحيفة إنها ستعمد إلى معاقبة كل من تجده متورّطاً في هذه المسألة. وأوضحت أنه ليست لديها أي معلومات تشير إلى استخدام الاستخبارات الخارجية أو المجموعات الإرهابية لهذه الصور والمعلومات على «فايس بوك»، لكن مصادر داخل الجيش الإسرائيلي أكدت أن الجيش يسابق الوقت من أجل إزالة هذه الصور عن هذا الموقع.
يشار إلى أن القوات الإسرائيلية بدأت قبل أشهر تدقق في ما إذا كانت على «فايس بوك» أي إشارات إلى وجود صور وخرائط ووثائق خاصة بالجهاز العسكري الإسرائيلي، وما وجدته سبّب صدمة كبيرة داخل مؤسسة الدفاع: فقد نشر جنود حاليون وسابقون صوراً لأنفسهم داخل الغواصات ومراكز القيادة والسيطرة وهم يتمرنون على استخدام أسلحة خاصة ويظهرون تجهيزات اتصالات وغيرها من الصور.
(يو بي آي)