التردّد والغموض الحاصلان في منطقة الشرق الأوسط حول تأمين الحماية لسكّان إسرائيل أمرٌ يعادل الهزيمة»موقع أوميديا ـ رافي بوشنيك
قام أحد أعضاء منظمة أبو نضال الإرهابية في الثاني من حزيران عام 1982 بإطلاق عدة طلقات نارية على السفير الإسرائيلي في بريطانيا، شلومو أرغوف، فأصيب في رأسه مما أدخله في غيبوبة دامت لثلاثة أشهر وإلى إصابته بالشلل مدى الحياة.
كانت محاولة الاغتيال هذه السبب الرئيسي الذي على أثره بدأت إسرائيل بتنفيذ عملية سلامة الجليل التي أذهلت كامل منطقة الشرق الأوسط خلال المراحل الأولى من القتال عندما وصل جيش الدفاع إلى أطراف مدينة بيروت خلال ثلاثة أيام فقط.
وكان ما أظهرته القوات الإسرائيلة في ذلك الوقت من عزم وتصميم وجهد هائل قامت به أمراً يستحق الثناء. في المقابل تأتي «الاستراتيجية اللعينة»، التي جرَّت إسرائيل إلى ذلك المستوى المتدني الذي جعلها تصف الدخول إلى لبنان بالغرق بالوحل اللبناني.
خطأ لبنان يتكرّر في غزة
لعل من الصعب التعامي عن الحقيقة التي مفادها أنه وبمرور الوقت ضعفت صورة الجيش بشكلٍ لا يقبل الجدل وتحديداً قوة الردع الإسرائيلية الموجودة لدى خصوم إسرائيل وهي المنظمات الإرهابية. إن الحرب الخرقاء على لبنان في صيف 2006 لم تفعل شيئاً سوى أنها أكدت ضعف الدافعية عند الجنود وذلك بسبب العجز في إدارة معركةٍ تم الشروع بها ثم ما لبثت أن فقدت زخمها، فيما ظلَّ حزب الله يطلق الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة السابقة لدخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
ولإيلاء الوضع الأمني في غزة الأهمية المطلوبة يأتي السؤال المنطقي الموجّه إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهو: ألم تُستخلص العبر من حرب لبنان الثانية؟ ألا من أحدٍ يندفع للعمل بتوصيات لجنة فينوغراد ويتبنى ما جاء في تقريرها؟
إن طريقة التعاطي المعقدة في عملية «الشتاء الحار» تلخص مدى الغباء والتسرع وعدم الدراية الحقيقية بأرض الواقع. وما تمَّ إعلانه عن أن العملية حققت نتائج مثالية في الوقت الذي ما زالت فيه صليات الصواريخ تتساقط على منطقة النقب الغربي، وتحولت فيه مدينة عسقلان إلى مدينة منكوبة ومهددة، يعكس الفشل الذريع ويشكل ضربة قاسمة للصدقية الوطنية.
هناك أيضاً أمور تدعو للقلق، ولا سيما تلك التي تتعلق بالاعتبارات التي كانت توجه قادة الجيش أثناء تنفيذهم لهذه العملية العسكرية المحدودة التي رُسمت أهدافها وخُفضت إلى مستوى الحد الأدنى بطريقة تعيد إلى الأذهان الهجمات الفاشلة لألوية المشاة في القرى اللبنانية منذ سنة ونصف سنة فقط. يصعب التصديق أن هذه هي الطريقة التي اختارها الجيش الإسرائيلي للعمل، فيما هي أكثر تناسباً مع نمط «حماس» بالعمليات، إذ إنها تتجاوز من جهة الخسائر، وربما تستغلها لرفع الحافزية لدى بقية المقاتلين، ومن جهة أخرى تنجح في كسب التعاطف الدولي من خلال التصوير الإعلامي للحدث، بينما تظهر إسرائيل بصورة المارد المهزوم.
وعموماً، يكفي النظر إلى صليات صواريخ «الغراد» و«القسام» التي استؤنفت على سديروت وعسقلان فور انسحاب قوات جيش الدفاع من جباليا للاستدلال على إنجازات «حماس» التي وجهت بذلك رسالة استهزاء ساخرة إلى الجيش. فمن السهل جداً تخيّل وضع جنود المشاة الذين قاموا بمهمتهم بشكلٍ يستحق الثناء وهم يشعرون بالوهن وخيبة الأمل، فيما يرفع الجانب الآخر شعارات «قهر العدو». كما يسهل أيضاً تصوُّر الأسئلة التي ستطرح في الجانب الإسرائيلي حول ثمن تلك الإجراءات المشكوك فيها التي لم تحقق أي شيء، بل ربما أدت إلى الإضرار بقدرة إسرائيل على المناورة في المدى القريب.
ثمن التردّد
يثير التردد الإسرائيلي القلق من التداعيات التي قد تنشأ بسببه وبالخصوص الانطباع الذي نشأ حول تمكن «حماس» من ردع جيش الدفاع. أما الأمر الآخر الأكثر جدية فكان في فرض مسار من المفاوضات السياسية غير المقبولة من الجانب الإسرائيلي. هل هذا ما رسمه القدر؟ هل يعجز الجيش عن تقديم خيارات واعدة أكثر إلى صانعي القرار؟ هل يجب على إسرائيل التوقف لأنه بكل بساطة هناك من أطلق الصفَّارة في الولايات المتحدة؟
بدلاً من التلطي في الظلام والخوض بالبحث في خفايا القانون الدولي بخصوص الحق في معاودة قصف منصات إطلاق الصواريخ (وبالمناسبة يبدو الأمر في منتهى الغرابة حيث لم يتقدم أحد ليبحث في هذه القضية الأساسية حتى الآن!)، فإنه ينبغي على إسرائيل اتخاذ قرار حاسم يقضي بحماية مواطنيها أينما وجدوا. وفي عالم المفاهيم الشرق أوسطية، التردد يعني الهزيمة، وضبط النفس يعني الجبن، والتراجع يمثل الضعف.
في مقاييس المعركة القائمة بناءً على المعرفة والإدراك المسبقين، فإن إسرائيل قد استسلمت. إذ عندما تكون الصورة مبشرة بتحقيق الانتصار، ومع ذلك يتم إيقاف العملية بسبب صيحات النساء، فهذا يعني أن اتجاه الحكومة يصبو نحو الخيار الأضعف وهو وقف إطلاق النار.
ينبغي على الجيش الكف عن محاولاته تعظيم إنجازاته من خلال الاعتماد على عدد القتلى في الصفوف الفلسطينية كدليل على ذلك، في حين لا تزال الصواريخ تتساقط باستمرار على المناطق السكنية. ولعل الوقت أصبح مناسباً لوسائل الإعلام الإسرائيلية الناطقة بالعربية كي تعمل على الوصول إلى القليل من التوازن في وجه الدعاية الإعلامية السامة التي تعزز الارتباط العاطفي الفلسطيني مع إرهابيي «حماس»، فقد أصبح من الصعب تحمل اللامبالاة الإجرامية المستمرة في مثل هذه الأمور.
أما الفشل المدوّي الآخر فيكمن في عدم القدرة على إبقاء حالة التشرذم داخل المجتمع الفلسطيني بطريقة تحد من حجم تعاطف العالم العربي والبلدان الغربية مع سكان غزة ومقاتلي «حماس»؛ فهناك إشارات تدل على احتمال اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية رداً على أحداث غزة، الأمر الذي يشكل إشارة مقلقة أخرى تعكس تدني مستوى العقلانية في التفكير الاستراتيجي داخل دولة إسرائيل.