محمد بدير
قالت لجنة فينوغراد كلمتها الأخيرة في تقويم أداء حكومة إسرائيل وجيشها خلال عدوان تموز 2006 على لبنان. خلصت في تقريرها إلى الحكم بالفشل والإخفاق على هذا الأداء، من دون إغفال الإشارة إلى إنجازات ميدانية موضعية، وأخرى سياسية رأت أنها تأتّت نتيجة «تسوية سياسية» لا انتصارات عسكرية. أعرضت اللجنة عن الخوض في معمعة المسؤوليات الشخصية، وركّزت جهدها التحقيقي على البعد «المنظوماتي» في ما حصل.
يمكن أن يُعزى هذا الإعراض إلى القيود القضائية التي فرضتها المحكمة الإسرائيلية العليا على اللجنة بهذا الشأن. كما يمكن الافتراض، عطفاً، أن اللجنة رأت أنها قالت ما أرادت قوله بهذا الخصوص في تقريرها الأوّلي، فاستنسبت عدم التكرار. هذا جائز. لكن قراءة متمعنة في التقرير تجعل من هذا الاستنتاج أشبه بتلهٍّ بأمر ثانوي.
يكاد التقرير يفيض بالعبارات التي تشد قارئه نحو الالتفات إلى أن غايته هي وضع إسرائيل في مواجهة مع ذاتها. بالنسبة إلى أعضاء اللجنة، بحسب ما توضح خلاصات تقريرهم، تحوّلت المهمة التي ألقيت على عاتقهم إلى إشعال الضوء الأحمر أمام إسرائيل بعدما اكشتفوا، خلال تحقيقاتهم، أن الفشل الذي تكشّفت عنه «حرب لبنان الثانية» لم يكن ظرفياً، وإنما بنيوياً. وإذا كان الأمر كذلك، فلا معنى، بل من الإسفاف، الدخول في لعبة البحث عن أسماء الفاشلين.
ما أراد أعضاء اللجنة قوله في تقريرهم هو أن الحرب مثّلت مناسبة، تراجيدية، لتشخيص داء خبيث استفحل خلسة داخل إسرائيل الدولة، لا إسرائيل الحكومة، إسرائيل الكيان لا إسرائيل هذه الجهة أو تلك.
بهذا المعنى، تصبح إخفاقات الجيش، الذي كان الخوف من تعرّض جنوده للإصابة خلال القتال طاغياً على أدائه، حتى لو كان الثمن سقوط المهمات التي تطلّبت الحرب تنفيذها، مجرد انعكاس لانتكاسة المجتمع الإسرائيلي وعدم استعداده للتضحية في مقابل البقاء. كذلك الأمر بالنسبة إلى إخفاقات الحكومة ورجالاتها. ألم تتعاقب خلال فترة الانسحاب من لبنان حكومات بكل ألوان الطيف الحزبي في إسرائيل، بدءاً بالعمل، برئاسة إيهود باراك، مروراً بالليكود، برئاسة أرييل شارون، وانتهاءً بكديما، برئاسة شارون وإيهود أولمرت. ليست المشلكة إذاً في المقاربات السياسية للحكومات أو رؤسائها، ولعلها ليست أيضاً في كفاءاتهم وخبراتهم السلطوية (حصراً)؛ المشكلة تكمن في أولويات الحكم بالنسبة إليهم، وهي أولويات أصبح صراع البقاء في السلطة أساسها الرئيس، ولو على حساب المصالح القومية والاستراتيجية.
تحدثت اللجنة في تقريرها عن «شعور الجمهور الإسرائيلي بالانكسار والخيبة» جراء الخسارة في الحرب الأخيرة. لفتت إلى أن اعتقاد إسرائيل نفسها، وكذلك الدول المجاورة (لم تحدّد: الأعداء والأصدقاء)، بقدرة جيشها على الانتصار في أي حرب وإلحاق الهزيمة بالأعداء، هو شرط لبقائها في المحيط الذي تعيش فيه. صرحت أنها لا تريد لمهمتها أن تتحوّل إلى الدعوة إلى «الاستعداد للحرب الماضية»، بل لتلك التي ستأتي، ملمّحة إلى حيوية عنصر الحسم في أي مواجهة.
حين كتبت كل ذلك، وغيره الكثير، كانت لجنة فينوغراد تدرك جيداً موقعها في نظر الجمهور الإسرائيلي كلجنة تحقيق رسمية، منزّهة عن الارتباط بأي أجندة سياسية أو شخصية. كانت تدرك أنها بالنسبة إلى الإسرائيليين أشبه بضمير مجرد، منفصل عن نزاعاتهم ونزعاتهم. من هذا الموقع أرادت أن توقظهم لتقول: أفيقوا من سباتكم... فالآتي أعظم.