هآرتس ــ رؤوبين بدهتسور
فكرة طرحتها إسرائيل عقب حرب 1967 وأفشلتها مخاوف الملك حسين من أن يكون أوّل زعيم عربي يوقِّع اتفاق تسوية

تبنت حكومات حزب العمل برئاسة ليفي اشكول (1967 ـــــ 1969)، وغولدا مئير (1969 ـــــ 1974) وإسحاق رابين (1974 ـــــ 1977) الخيار الأردني الذي كان يعني أن يقوم حل المشكلة الفلسطينية على نقل السيادة على أكثرية أرض الضفة إلى الملك الأردني. تمت صياغة الخيار بعد نحو سنة من انتهاء حرب الأيام الستة، وبعدما فشلت محاولات تحقيق «الخيار الفلسطيني» فقط.
في جلسات الحكومة بعد انتهاء حرب الأيام الستة، تحولت اقتراحات أكثر وزراء الحكومة من حكم ذاتي فلسطيني إلى دولة مستقلة في الضفة، فيما أيد أصحاب الحل والعقد فيها، رئيس الحكومة ليفي اشكول، ووزير الدفاع موشيه ديان، ووزير العمل يغئال ألون، ووزير الإعلام يسرائيل غليلي، الخيار الفلسطيني.
في جلسة الحكومة التي عُقدت في التاسع عشر من حزيران 1967، حذّر ألون من الخيار الأردني. قال: «يا سادتي، لقد تلهينا في عام 1948 بكل ما يتعلق بالبيت الهاشمي، وبدل أن نحتل القدس التي كانت قريبة المنال، والضفة الغربية كلها، وكانت المسألة مسألة ثلاثة أيام أو أربعة، تلهينا مع البيت الهاشمي، ودفعنا عن ذلك ثمناً باهظاً. أخاف من أن يتكرر هذا الأمر. آخر أمر هو إعادة إنش واحد من الضفة الغربية. لا يجب أن نرى (الملك) حسين كأنه باق إلى الأبد.. اليوم يوجد حسين، وفي الغد النابلسي، وبعد غد شخص ما سوري سيسيطر عليهم، وبعد ذلك سيعقدون اتفاقاً دفاعياً مع الاتحاد السوفياتي ومع الصين وسنجد أنفسنا في وضع أصعب. نحن نبحث مسألة ليست أبدية، ونقيم ذلك على ظاهرة حيّة، وقد يعيش في الحد الأقصى ستين سنة بعد، إذا لم يتلقَّ رصاصة في أثناء ذلك».
وادعى ألون أن الحل المنطقي الوحيد الذي يمكن أن يرد على المشكلات الأمنية لإسرائيل في جبهتها الشرقية هو إقامة دولة فلسطينية. قال: «أنا آخذ إمكاناً في الحد الأقصى. لا كانتون، ولا منطقة ذات حكم ذاتي، بل دولة عربية مستقلة متفق عليها بيننا وبينهم في جيب تحيط به منطقة إسرائيلية.. حتى لو كانت مستقلة بسياستها الخارجية».
عبّر اشكول وديان أيضاً عن معارضة مفاوضة الملك حسين، وأيدا امتحان إمكان تحقيق تسوية تكون قائمة على الخيار الفلسطيني. خلال نقاش للجنة السياسية في المعراخ في السابع من تموز 1967، بيّن اشكول موقفه المبدئي من موضوع مستقبل الضفة. بحسب تصوره، من أجل ضمان الاحتياجات الأمنية، لا مناص من الاستمرار في السيطرة العسكرية على جميع الأرض حتى نهر الأردن. لكن لكي لا تصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية، يجب إحداث وضع خاص لسكان الضفة العرب.
قال أشكول: «أرى منطقة نصف ـــــ مستقلة فقط، لأن الأمن والأرض بيد إسرائيل. لا يهمني اذا أرادوا آخر الأمر تمثيلاً في الأمم المتحدة. بدأت بمنطقة ذات حكم ذاتي، لكن اذا تبين أن الأمر غير ممكن، فسيحصلون على استقلال».
هاجم غليلي بشدة الملك الأردني، في جلسة الحكومة في السابع عشر من تشرين الأول 1967. قال: «أنا أتفق على أن البرايا مشفقة على الملك الرضيع المستحق للشفقة، لكن من المناسب أن نُبرز الأوجه كلها، إن حسين لم يُعبر قط عن الرغبة في السلام مع إسرائيل. (هو) شارك في المؤتمر التأسيسي لمنظمة الشقيري. وقصف القدس. ومن المعلوم نظرته إلى الأماكن المقدسة. يجب أن نُبرز من هو الشريك، الذي يُنميه راغبو السلام على اختلافهم كحليف في التفاوض السلمي».
في محاولة لتحقيق الخيار الفلسطيني، وبعدما تبين له أن وزراءه الكبار يرفضون الخيار الأردني، اتخذ اشكول سلسلة من الخطوات من أجل فحص إمكان التوصل إلى تسوية سياسية. في نقاش تم في مكتبه في الثاني عشر من تشرين الثاني 1967، أثار الحاجة إلى إجراء اتصالات سياسية بعرب المناطق. قال: «ينبغي فحص إمكان إقامة حركة لدولة مستقلة في الضفة، وأن نفحص منْ من القادة يحسن بنا لقاؤهم، وأي وزير يلقى من، وربما رئيس الحكومة نفسه».
في بداية شباط 1968، قرر اشكول إجراء سلسلة محادثات سرية مع قادة من المناطق. استمرت المحادثات حتى أيلول. حاول أن يوضح مع محادثيه إمكان قيادة المسيرة نحو إنشاء حكم ذاتي في الضفة. لكن عندما أثار اشكول، في حديثه الى حكمت المصري ووليد الشكعة من نابلس، في السادس والعشرين من شباط 1968، فكرة المضي الى تسوية بين اسرائيل وسكان الضفة، أجابه المصري بأنه يجب تسوية المشكلة مع العالم العربي كله. فأجابه اشكول: «اذا كنتم تزعمون أنكم لا تستطيعون العمل كفلسطينيين، فقد وصلنا الى طريق مسدود».
خلال الاشهر الاولى من عام 1968، احتار اشكول بين الرغبة في تقديم فكرة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة والاعتراف بالحاجة الى محادثة ملك الاردن. حتى نهاية ايلول 1968، أجاز اشكول ما لا يقل عن ستة لقاءات مع الحسين، منها ما كان بمشاركة وزير الخارجية آبا ايبان ووزير العمل ألون.
في مقابل ذلك، بيّنت الادارة الاميركية لاسرائيل أنه يمكن التوصل الى تسوية بتوسط الحسين فقط. كتب الرئيس ليندون جونسون، في رسالة الى اشكول في بداية نيسان 1968: «الحسين مستعد للتفاوض لكن وضعه ضعيف. يجب على اسرائيل أن تأخذ ضائقته بالحسبان وأن تأخذ بموقف مريح منه».
خريطة ألون
يبدو أن أحد التطورات التي أثرت أكثر من كل شيء في التخلي عن الخيار الفلسطيني مصدره تغير توجه ألون. بوضعه «خطة ألون» الأصلية على طاولة الحكومة، في السابع والعشرين من تموز 1967، اقترح أن يُقام في الضفة حكم ذاتي فلسطيني. رفضت الأكثرية الساحقة من وزراء الحكومة الخطة عندما عُرضت على الحكومة كاملة، في الثلاثين من تموز 1967. لكن النظر الى الخطة تغير بالتدريج، وبقدر كبير أيضاً لأنه لم تُثر خطط بديلة.
في بداية 1968، بدأ ألون يصوغ تصوراً جديداً. استقر رأيه على ترك الخيار الفلسطيني، وتبنى ما عُرف مع الوقت باسم «الخيار الأردني». كانت الفكرة التي أثارها ألون بسيطة: فبدل مواجهة القضية المعقدة لإنشاء الحكم الذاتي، سيُسلم الأردن المنطقة، وهكذا ستُعفى اسرائيل من الحاجة الى مواجهة المشكلة الفلسطينية. لم يُغير ألون الخريطة التي خطها في تموز 1967 (ما عدا إضافة ممر يصل الأردن بالضفة في منطقة أريحا)، واقترح أن يظل غور الأردن في يد إسرائيل، وكذلك منطقة غوش عتصيون، وجزء من جبل الخليل والقدس الموحدة. أما ما بقي فيُسلم الى الملك حسين.
أُجري نقاش مهم لهذا الموضوع في اللجنة السياسية للمعراخ (حزب العمل حالياً) في العشرين من نيسان 1968. طُرحت قضية لقاء آبا ايبان المتوقع للملك حسين. أيد جميع المتحدثين إتمام هذا اللقاء وعرض أكثرهم (ما عدا موشيه ديان وشمعون بيريز، الذي عمل أمين سر حزب رافي) موقفاً مؤيداً لـ«خطة ألون» قاعدة للسياسة.
في أواخر أيلول 1968، تم اللقاء الحاسم مع الملك حسين في لندن بمشاركة الوزيرين آبا ايبان وألون أيضاً. وصاحب الملك حسين مستشاره المقرب، زيد الرفاعي.
أثار ايبان أمام الملك ستة مبادئ تُلخص تناول إسرائيل للتسوية السياسية مع الأردن، وفيها نزع السلاح في الضفة، ونشر قوات من الجيش الإسرائيلي في غور الأردن، وأن تكون القدس موحدة تحت سيطرة إسرائيل وإقامة سلطة مشتركة للاجئين. عرض ألون أيضاً خريطة الخطة، وقال لحسين إنه «ليس الحديث عن تعديلات وقتية تظل سارية المفعول ما بقيت ملكاً، وما بقيت أنا وايبان على قيد الحياة، بل الحديث عن تسويات تظل سارية المفعول إلى الأجيال المقبلة.. أنت خسرت الحرب وعليك أن تتحمل النتيجة».
أجاب حسين: «مشكلتي هي كيف سأُبيّن الحل لشعبي، إذا لم يكن حلاً يقبله الرأي العام العربي».
بعد بضعة أيام، عرض الرفاعي وثيقة فيها ستة مبادئ للحسين، رداً على المبادئ الستة التي أثارها ايبان. كتب الحسين، من جملة ما كتب، أن «الأردنيين يقبلون مبادئ القرار 242، وفي ضمنها إقرار بأنه لا يجب امتلاك الأرض بالقوة. نحن نعرف انه يجب أن تتم تغييرات لخطوط وقف إطلاق النار. يجب أن تكون التغييرات على أساس متبادل». وفي تناوله القدس، قرر أن «أقصى ما يمكن أن نكون مستعدين للموافقة عليه هو الاعتراف بحق إسرائيل في الأماكن المقدسة لليهود». تنتهي الوثيقة الأردنية كما يلي: «تتعلق قدرتنا على الإسهام في التسوية تعلقاً تاماً بقدرتنا على السيطرة على الوضع الداخلي في الأردن وقدرتنا على بيان التسوية للعالم العربي. لهذا يجب أن يكون كل اقتراح يتم بحثه اقتراحاً يستطيع العالم العربي قبوله، لا اقتراحاً يُفرض علينا».
أوضح اللقاء لمقرري السياسات في إسرائيل أن الخيار الأردني غير قابل للتحقيق. وأدركوا أن الملك حسين لا يريد، ومن شبه اليقين أنه لا يستطيع ايضا، أن يكون أول زعيم عربي يوقع على اتفاق سلام مع إسرائيل. مع ذلك، لم يمض وقت طويل حتى امتُحن الالتزام الإسرائيلي لنظام حكم الحسين. ففي أيلول 1970، «أيلول الأسود»، عندما بدأ ياسر عرفات حرباً لنظام الحسين، كانت إسرائيل هي التي هبّت لنجدة الملك، وأنقذت عرشه في واقع الأمر.
في بيت اللورد
في الخامس عشر من آذار 1972، في محاولة لمنع ما كان يبدو له الخطوة المقبلة لحكومة إسرائيل ـــــ ضم الضفة ـــــ اقترح الملك حسين توحيد الضفتين في «المملكة العربية المتحدة»، التي سيرأسها بالطبع. رفضت منظمة التحرير الفلسطينية اقتراح الملك رفضاً باتاً. في حزيران 1977، أثار الملك مرة أخرى اقتراح الوحدة الفيدرالية، وكان يفترض في هذه المرة أن تكون مكونة من المملكة الهاشمية الأردنية ومن الحكم الذاتي في الضفة. كذلك رفض عرفات هذا الاقتراح رفضاً باتاً.
في عام 1987، حاول شمعون بيريز، الذي كان آنذاك وزير الخارجية، إحياء الخيار الأردني؛ بعد مفاوضة سرية للملك حسين، في البيت اللندني لصديقهما المشترك اللورد فيكتور ميشكون، صيغ «اتفاق لندن» الذي أحبطه رئيس الحكومة اسحق شامير. كانت مبادئه مشابهة بقدر كبير لتلك التي عُرضت على الملك في أيلول 1968. نقول في هذا المقام إن زيد الرفاعي حضر هذا اللقاء أيضاً في هذه المرة، وكان حينئذ رئيس حكومة الملك حسين.
في كانون الأول 1987، نشبت الانتفاضة الأولى التي كانت إحدى نتائجها استقرار رأي الحسين على الانفصال عن الضفة، في تموز 1988.
الدائرة الأولى، التي كان بدؤها في حزيران 1967، استُكملت في الثالث عشر من أيلول 1993، مع التوقيع على اتفاقات اوسلو. أعادت الحكومة، برئاسة اسحق رابين، الذي كان رئيس الأركان في 1967، سياسة إسرائيل في ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية إلى نقطة البداية في حزيران 1967، وإلى الخيار الفلسطيني. استقر رأي رابين على الاعتراف بشرعية منظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني وأن يوقع معها على اتفاق كان شيئاً من الحسم الاستراتيجي الواضح بين التوجهين الأساسيين اللذين صحبا السياسة الاسرائيلية في السنين الخمس والعشرين التي سبقت اتفاق اوسلو.
في تشرين الأول 1994، وقع اتفاق السلام بين إسرائيل والأردن. مضى الملك حسين، الذي خاف قبل ذلك بثلاثة عقود أن يكون أول زعيم عربي يصنع السلام مع إسرائيل، إثر أنور السادات. في ظاهر الأمر، استُكملت المسيرة وبُت أمر تحقيق الخيار الفلسطيني، لكن الانتفاضة الثانية قطعت المسيرة، ويُدفع الخيار الأردني مرة ثانية الآن إلى الفراغ الذي نشأ في المسيرة السياسية منذ أيلول 2000. عادت الدائرة الثانية للخيار الأردني وفُتحت من جديد.