حيفا ــ فراس خطيب
فلسطينيو 48 في سعي دائم للبحث عن وسيلة لتكريس الخصوصية في «الدولة اليهودية». «الترفيه» جزء من هذه الوسائل، حتى لا يذوب جزء من التراث الثقافي العربي والفلسطيني في المحيط الإسرائيلي

  • طلاب جامعات وعائلات يبحثون في حي الألمانية عن المدينة الفلسطينية المفقودة


  • الشارع الرئيسي لـ«حي الألمانية» العربي في حيفا، شارع واسع ومستقيم يمتد من نهاية حدائق البهائيين حتى مشارف الميناء المغلق. هو «قلب الترفيه النابض»، كما يسمونه. بضع مئات من الأمتار لا أكثر. فيه عشرة مقاهٍ وثلاث حانات، غالبيتها بملكية عربية.
    أضواء صفراء ينعكس شعاعها على الحجارة القديمة المرممة، فتكسر سواد الأسفلت التقليدي، تماماً كما كسر ذلك الشارع تقاليد المساء العربي في المدينة منذ عشر سنوات، وصار شارعاً «قيد الجدل». ومع أنَّ سكان الحي وغالبية الرواد عرب، إلا أن اسم الشارع الرسمي هو «جادة بن غوريون»، ليس للذكرى، بقدر ما هو لـ«تذكير العرب».
    بيوت الحي بنيت على الطريقة الألمانية، فيها قليل من الملامح الفلسطينية. هي مزيج بين القناطر والشبابيك العالية الفلسطينية، والقرميد الألماني الأحمر. ولأنه الوحيد تقريباً يشهد تكثيفاً للمقاهي والحانات في بقعة صغيرة. جمع هذا الشارع في عهده الحديث عرباً من كل مكان: طلاب الجامعات وعائلات يبحثون عن المدينة العربية الفلسطينية المفقودة. هناك من وجد في المقهى مدينته، وهناك من اكتشف أن «المقهى ليس مدينة». وثمة من لا يزال يرى المدينة الكبرى قرية صغيرة. وهناك من يبحث عن الخصوصية، في الشارع الأكثر ارتياداً.
    هدوء ما قبل العاصفة
    كل شيء يبدو رشيقاً ومنساباً في المساء، الساعة تقترب من الثامنة والنصف ليلة الجمعة. لا يزال بالإمكان إيجاد مكانٍ لإيقاف السيارة، واختيار المكان الذي تحب، وفي أي مقهى وفي أي حانة ترغب الجلوس. لا يزال بالإمكان سماع صوت الموسيقى العربية. لا يزال في الإمكان النظر من حولك، والتقاط عاشقين، عربيين في أغلب الأحيان، تجمعهما نظرة طويلة، يكسرها مجيء بائعة الورد الروسية، حاملةً دلوها الأحمر، مبتسمة هي أيضاً، تقترح على الشاب شراء وردة لحبيبته.
    تنتقل البائعة إلى اثنين آخرين كانا عاشقين على ما يبدو، ينظر كل واحد منهما إلى زاوية، لا يبتسمان، لا يتحدثان أصلاً، تقترب منهما، فلا ينظران إليها، فتمضي إلى زوج آخر، وإلى مقهىً آخر، ومن حانة إلى أخرى. هكذا، في كل ليلة، صارت بائعة الورد جزءاً من المشهد الحيفاوي ـــــ «الألماني» ـــــ «البنغريوني».
    على مقربة من «العاشقين»، يجلس من يتحدث في السياسة أو الأدب. منهم من يعشق الفقه بالتأكيد، ومنهم من يتحدث عن الأدب والسياسة بصوتٍ عالٍ. شبان، أربعة أو خمسة، يجتمعون على طاولة أخرى ينظرون حولهم، ينتظرون شيئاً ليس مفهوماً، فيتسرب الخوف إلى مدير المكان، الذي يتجول حولهم، خشية اندلاع شجار ما، مع أحد ما، في أعقاب الجعة.
    هكذا الأوضاع في غالبية الأماكن، هناك من يتقن الجلسة، وهناك من لا يعرف عنها شيئاً، ثمة من لا يزال مبهوراً بالأجواء العربية، وثمة من يرى في كل القضية انحلالاً، لكنه يرتاد المقهى كل يوم. هناك أناس، هم جزء من الحانة أو المطعم، هم شيء منه، صباحاً وظهيرة ومساءً، النقاشات نفسها، المكان نفسها، يطلبون الموسيقى نفسها، يشربون المشروب نفسه ويعودون إلى بيوتهم في الساعة نفسها. روتين سئم نفسه منذ عشر سنوات. وهناك آخرون، وإن رأيتهم في النهار لا تعرفهم، لأنك لا تراهم إلا ليلاً. وهم كثر.
    لا يخلو الأمر من يهود، يحبون معاشرة العرب، منهم لأجل الطعام الشهي، ومنهم لترجمة يساريته على أرض الواقع، ومنهم لمجرد حبه للمكان الجميل. هم نسبة لا يستهان بها من رواد، لكنهم ليسوا جزءاً من المكان، السياق يختلف لدى العرب.
    لا يزال بالإمكان مراقبة كل شيء، حالياً فقط، فبعد ساعة، لن يكون بالإمكان فعل شيء سوى البحث عن مكان واحتلاله. لا في مقهى ولا في حانة. ضجيج، وموسيقى غير مفهومة. الناس ينظرون إلى بعضهم. لا شيء يسير على ما يرام. الصخب يتصاعد، يأتي من الشارع، وعندما تبدأ الكحول مفعولها، يخرج بعض الشبان بسياراتهم، بموسيقى صاخبة، يجولون الشارع، من الأعلى إلى الاسفل وبالعكس. مجرد استعراض عضلات للفت الانتباه، أحياناً تنتهي بعراك بسيط، أشبه بصراعٍ للقوى، من سيسطر على هذه الشارع الليلة؟ لكن لا أحد يسيطر، حين يصحون من كحولهم، تنتهي المعركة.
    من السكينة إلى الصخب
    قبل عشر سنوات تقريباً، كان هذا الشارع سكنياً عادياً من الدرجة الأولى، لا يميزه شيء سوى أنه مستقيم. سكانه عرب عاديون، جزء من تاريخ هذه المدينة، همومهم من الحال العامة. لم يكن مقهى واحد في هذه المدينة الكبيرة يضع الموسيقى العربية. المقاهي موجودة، الحانات موجودة، لكن في المناطق العبرية لا أكثر. العرب هناك غرباء، أو أرادوهم غرباء.
    كان المارّ بالمركز القديم والفقير لحيفا يسمع أحياناً موسيقى عربية منبعثة من أحد المطاعم المغلقة في ساعات الليل. لكن الدخول إلى ذلك المكان يحتاج إلى جهد، غالبية الحضور هم من فقراء اليهود الشرقيين، راقصة شرقية تجاوزت الخمسين، وجمهور غالبيته من الرجال فوق الستين، يرقصون معها. مفضل، ترك المكان حالاً، حتى لو أن الموسيقى عربية.
    افتتح في حيفا المقهى العربي الأول، بالمعنى العربي، قبل 10 سنوات. اسمه «فتوش». الموسيقى عربية: فيروز، زياد الرحباني، الشيخ إمام، وسيد مكاوي وأم كلثوم. كان المقهى مقسماً إلى ثلاثة أجزاء، الحانة، والغرفة العربية، وساحة المحل. لا شيء في الحي سوى المقهى. نقطة ضوء في حي لا ضوء فيه.
    بدأ العرب يسمعون عنه، طلاب الجامعات يدخلونه أفواجاً، مستبشرين بالمقهى العربي الأول في حيفا المختلطة، موجود في مكان بعيد عن مركز العرب، لكن صاحبه عربي، ومكانه عربي. كان الزبائن مبهورين بكل شيء: الموسيقى العربية، النادلة العربية، الساقي العربي. ليالي المكان كانت فوضى عارمة، عبثية لا توصف، الناس على بعضهم، غالبيتهم ما بين العشرين والأربعين، من احتل مكاناً إلى جانب البار يعني أنه انتصر، ومنهم من يبقى منتظراً. الساقي يضحك، يمازح زبائنه بأغنية زياد الرحباني «يلة كشوا برة»، وبدلاً من أن «يكشوا» يأتي سرب آخر من الخارج ليغني الأغنية نفسها.
    هذه ليلة من ليالي الأسبوع الأول لافتتاح المقهى العربي. الناس متعددون، هناك من أحب، وهناك من ذهل: «ماذا تفعل هذه الفتيات في الساعة الثانية بعد منتصف الليل في البارات؟»، قال أحد المرتادين، ذات ليلة وهو ثمل.
    تساؤلات، في الحانة الأولى. فوضى لا تنتهي حتى يشق الفجر ظلام الأمس. غالبيتهم عادوا إلى بيوتهم، بعض طلاب الجامعة وعمال المكان، وفي الأفق أغنية «بلا ولا شي.. بحبك». زياد الرحباني مرة أخرى.
    في ذلك الحين، دارت شائعة مقصودة، بين أربعة أو خمسة شبان فقط، أنَّ زياد الرحباني سيأتي إلى حيفا متضامناً مع الفلسطينيين. ذهل صاحب «فتوش»، وقال: «إذا أحيا زياد الرحباني حفلاً في المطعم، فسأكون قد حققت حلمي، وفي اليوم التالي من قدومه سأغلق المطعم إلى لأبد».
    بعد أشهر من افتتاح المقهى الأول، افتتح آخر، وبعد شهرين افتتح ثالث، ورابع، حتى صار الشارع مركزاً في أقل من عامين. فيه كل شيء، ليس فقط المقهى المفقود، بل الحانة المفقودة. ودخل العرب مرحلة ما بعد المقهى. هناك، على مقربة من المكان، مرقص ليلي، يفتح أبوابه الساعة الحادية عشرة. موسيقى عربية، تتخللها أميركية، لا وجود للموسيقى العبرية. وهذه الوضعية موجودة في كل الشارع، اليهود يأتون، لكنَّ الموسيقى العبرية لا تتلاءم مع الأجواء.
    إلى الحانة
    الدخول إلى الحانة والمرقص، يعيد الرائي، للوهلة الأولى إلى أوروبا، إلى عتمة الحانات اللندنية، التي يشقها دخان السجائر. لكنَّ التدقيق والنظر في أبسط الأشياء، يعيد أوروبا إلى مكانها، هذه ليست أوروبا، هذه حيفا العربية، التي تحاول، ربما جاهدة، خلق أوروبا صغيرة، في ذلك الحي العربي ـــــ الألماني.
    مرتادو الحانة، يعيشونها، لكن بطريقتهم العربية. شبان يجلسون إلى جانب البار، ويدققون في الراقصين كأنهم على مسرح لا في ساحة رقص. الموسيقى تشتد ما بعد منتصف الليل، يتحوّل المكان كلّه إلى مرقص. لا أحد يسمع أحداً ولا يتمكن من سماع أحدٍ. الوجوه تكون نفسها عادةً. الموسيقى ذاتها، آتية من بيروت والقاهرة والمغرب، ثقافة «البوب» العربية، ذات الإيقاع السريع. مع نهاية السهرة، تختفي ثقافة البوب، لتحل مكانها، كما تحل في الأعراس، الأغاني الطربية.
    ما بعد العاصفة
    الساعة تقترب من الثانية والنصف بعد منتصف الليل. الراقصون متعبون، والشارع يشهد انفراجاً يعيد الأضواء الصامتة إليه. شاحنة التنظيف الخضراء تقترب من المكان. «شغيلة» المقاهي يتناولون طعام ما بعد العمل، وأصوات الموسيقى تهفت رويداً رويداً. الشارع يخلو من كل شيء. لكن هناك من ظل صامداً، ولا تزال بعض النقاشات السياسية تتعالى من طاولته المتعبة. لكنها أخف وطأة. برودة الصباح تجتاح هدوء ما بعد العاصفة.
    الخروج من الشارع والاتجاه إلى الأعلى يؤكدان أنه لا يزال بالإمكان السهر، هناك أماكن عربية افتتحت في مناطق تعتبر يهودية، يسكنها اليوم القادمون الجدد. هذه المقاهي لا تشكل منطقة، بل هي متفرقة، تخدم الحي، لا تحتمل أن تكون مركزاً.
    في ذلك المكان، يسكن طلاب جامعيون، فنانون، إضافة إلى سكان الحي العاديين، من الروس والعرب واليهود. فئة شبابية جاءت إلى حيفا من القرى قاصدة المدينة، ربما حباً بها، ربما بحثاً عن المستقبل. وتحول مكانهم في حيفا إلى قرية عربية، فيها كل المقومات القروية، مع قليل من الحرية غير المسبوقة. تماماً مثل العرب في كل حيفا. ما يميز سهرات نهاية الأسبوع في تلك المقاهي، هي «سهرة العود» التي تأتي عادةً صدفة، لكنها تأتي في كل أسبوع وفي الساعة نفسها. ولأن المقاهي في أحياء لا تحتمل ثقافة المقاهي، تنتهي هذه السهرات بحديث مع الشرطة التي اعتادت الوصول إلى مكان لتقول: «لديكم 5 دقائق حتى تسكتوا».




    «الأمان اليهودي»
    يقول مهندس المدن، يوسف جبارين، الذي أعد دراسة عن شارع الألمانية والرواد، لـ«الأخبار» إنَّ البحث أجري في عام 2003، ووجد أن اليهود يرتادون بعض الأماكن فيه في أعقاب العمليات التفجيرية في المدينة، «حيث شعر اليهودي الإسرائيلي بالأمان في الأماكن العربية».
    ويشير جبارين إلى أنَّ غالبية رواد مقاهي الألمانية، هم من خارج حيفا وغالبيتهم الساحقة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وأن 75 في المئة منهم يحملون شهادات أكاديمية. 67 في المئة تقريباً «يشعرون بالأمان». ويرى 41.7 في المئة منهم أنَّ المكان هو للقاء فكري واجتماعي.




    الحي الألماني
    أنشئ الحي الألماني أو المستعمرة الألمانية على يد جماعة الهيكل الألمانية، وكانت تشكل فريقاً من حركة دينية إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا أكدت ضرورة التعمق في دراسة الكتاب المقدس والتمسك بتفاصيله. تعود جذور هذه الحركة إلى القرن التاسع عشر، لكنّها شهدت نهضة قوية وواسعة النطاق في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدعوة من كريستوفر هوفمان وجورج دافيد هاردج، اللذين سعيا إلى تطبيق فكر استعماري استيطاني ونجحا في استقطاب مؤيدين، واستخدما ضغط السياسيين الألمان والفرنسيين لدى السلطات العثمانية للسماح للحركة بالاستيطان في فلسطين. وصل هوفمان وهاردج إلى حيفا في العام 1868 وحصلا على ترخيص من الحكومة العثمانية لشراء أراض في المدينة. وبنت الحركة أول مستعمرة في فلسطين على القطعة الممتدة من شاطئ البحر المتوسط حتى سفح الكرمل، على الطراز الألماني مشددين الابتعاد عن العرب.