محمد بدير
الثاني والعشرون من أيلول حدث ستذكره إسرائيل جيداً. ستذكره بعناصره الثلاثة الأكثر حضوراً: الظهور العلني الأول للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد عدوان تموز؛ حجم الحشد المهول الذي حطّم الأرقام القياسية السابقة؛ والمواقف التي أطلقت في المناسبة من قبل نصر الله لجهة وضع النقاط على الحروف بشأن المقاومة وسلاحها وفاعليتها في المرحلة المقبلة.
شنت إسرائيل عدوانها على لبنان وهي تلوح بأهداف الحد الأقصى («سحق حزب الله»، وإعادة الجنديين الأسيرين بلا قيد أو شرط)، ثم عادت وأوقفتها من دون تحقيق الحد الأدنى من هذه الأهداف. الخطاب الإسرائيلي بعد الحرب جهد لتطويع الواقع الذي انقشع عنه غبار المعارك بحيث يبدو متوائماً بأي شكل مع الأهداف التي أعلنت، ومعبراً عن «الإنجازات» التي أفضت إليها الحرب.
من جملة هذه «الإنجازات»، التي منى بها الإسرائيلي نفسه، يمكن التوقف عند ثلاثة، هي الأهم:
أولاً ـ المراهنة على انفضاض الحاضنة الشعبية عن المقاومة بعد تدفيعها ثمناً باهظاً لقاء الالتفاف حولها، قتلاً وتشريداً وتدميراً للبيوت والبنى التحتية (ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضاً: وإحجاماً مغرضاً عن المسارعة إلى التعويض للمنكوبين وإعادة بناء ما دُمر). هذا سيؤدي، وفقاً لهذا الرهان، إلى توفير أرضية يمكن أن يؤسس عليها، بالتنسيق بين الداخل والخارج، لرسم مسار سياسي يقود نحو تحقيق الأهداف التي تعذر تحقيقها في الحرب، ولكن على مدى أبعد وضمن سياق تدرّجي، يعتمد هذه المرة مبدأ «القضم»، عوضاً عن «السحق». وفي هذا الإطار فقط، يمكن أن نفسر المقاربة التي تعتمدها الحكومة اللبنانية، بالتشاور مع «أصدقائها» من الدول، تجاه اليونيفيل ومهماتها وانتشارها.
ثانياً ـ فرض واقع جديد على قيادة المقاومة، لجهة تقييد حركتها، يظهرها بمظهر لا ينسجم مع مقولتها بالانتصار من جهة، ويعزز المقولة الإسرائيلية المماثلة من جهة معاكسة. يختصر قول أولمرت (سيُمضي حسن نصر الله بقية عمره في الخندق) هذه النقطة، التي يمكن القول إن مفاعيلها الأساسية ذات طابع معنويبامتياز، من دون التطرق إلى التداعيات المرتقبة لإقدام الإسرائيلي على تنفيذ تهديده المتعلق باستهداف قائد المقاومة.
ثالثاً ـ ما قبل الثاني عشر من تموز ليس كما بعده؛ والحديث عن وضع الحدود مع لبنان والتهديد الذي كانت تمثله المقاومة على شمال «إسرائيل» وتوازن الردع الذي كانت تفرضه في مقابل الإعتداءات الإسرائيلية. يُذكر أن أغلب التنظير الـ«أولمرتي» بعد الحرب يتمحور حول هذا «الإنجاز».
يمكن القول، بالعودة إلى المهرجان الحدث وعناصره الثلاثة الأبرز، ومن دون خوف الوقوع في المبالغة، إن هذه العناصر أسقطت، بالضربة القاضية، «الإنجازات» الإسرائيلية «المؤملة» الآنفة الذكر.
فحجم الحشد الذي لا سابق له، كماً ونوعاً (يُعنى بالنوع هنا نسبة للتنوع) أجهض كل الرهانات المتصلة بإمكانية سلخ المقاومة عن جمهورها، وتعريتها عن محيطها الشعبي.
وإطلالة نصر الله العينية على هذا الجمهور، مع ما انطوت عليه من فعل تحد مباشر للتهديدات الإسرائيلية، حطمت، إلى حد التفتيت، مقولة الإنتصار الإسرائيلي بفلسفته الـ«أولمرتية» (أنا أتجوّل حراً ونصر الله قابع في الخندق)، وقضت على كل الآمال التي منّى بها أولمرت وبيرتس وحالوتس أنفسهم لجهة القضاء على البعد الجماهيري لزعامة السيد. ويمكن أن نضيف ونقول إن ظهور السيد، على خلفية التهديد الإسرائيلي المباشر باغتياله، وجه ضربة عنيفة إلى «هيبة» إسرائيل، و...عنجهيتها.
أما المواقف التي أطلقها بشأن المقاومة وبنيتها التي ترممت وخبرتها التي تراكمت وقدرتها التسليحية التي فاقت كل حد مضى، والأهم: صبرها الذي لن يدوم طويلاً على الخروق الإسرائيلية، فقد أعادت إسرائيل إلى المربع الأول الذي انطلقت منه لشن عدوانها. هذه المواقف لم تكن أقل من عملية استئصال جذري لكل مفاعيل الحرب إسرائيلياً ودولياً، وترسيخاً لمفاعيلها على مستوى فلسفة المقاومة وطروحاتها. تصريحات السيد في مهرجان الانتصار أهالت قبضة التراب الأخيرة فوق قبر «الإنجازات» الإسرائيلية في الحرب.
مهرجان الثاني والعشرين من أيلول، لم يكن احتفالاً بنصر. إنه نصر إضافي إلى نصر الرابع عشر من آب.