عكا ــ فراس خطيب

على مدخل السوق القديمة في مدينة عكا، يقف طفل صغير وراء «بسطة» الاسطوانات المدمجة وإلى جانبه ورقة بيضاء كتب عليها بخطٍّ تصعب قراءته: «تنزيلات.. تنزيلات على منوعات 2006... 10 بدل 20». لكن احداً لا يلتفت.
قريباً منه، على بعد ثلاثة حوانيت مغلقة، يجلس صاحب دكان للإكسسوارات، تعدى عمره الستين، على كرسي بلاستيكي، ممسكاً صحيفة بيده ومغمضاً عينيه. لا يستيقظ من ضجة السوق، ويستطيع المارة، من نظرة إلى داخل الدكان، أن يشاهدوا امرأة تضم رأسها بين يديها وتذهب في سبات عميق... يبدو أنها زوجته.
هكذا تبدو سوق عكا القديمة في ظهيرة اليوم الواحد والثلاثين للعدوان الاسرائيلي على لبنان: خالية ومنسية. وهكذا أيضاً تبدو تلك المدينة التاريخية، التي تحوّلت منذ وقت طويل إلى مدينتين مختلفتين: عكا «الجديدة» الواقعة خارج الأسوار ويسكنها اليهود وبعض العرب من «ميسوري الحال»، وعكا القديمة الواقعة بين الأسوار ولا يسكنها إلا العرب...وشتان بين عكا وعكاكان وضعنا سيئاً قبل الحرب وتحول إلى الأسوأ» يقول أحمد زكور ، صاحب أكبر مسمكة في السوق، بينما كان منشغلاً بإدخال صناديق الأسماك الضخمة إلى غرفة التبريد. ويتابع «هذا ليس عدلاً. أن أعيد الصناديق كما هي، ليس عدلاً».
ويترك زكور الصناديق فجأة، ويخرج من جيبه ورقة موقعة من «وزارة الصحة» لإثبات حادثة معينة: «لقد رميت طناً و300 كيلو من الاسماك أول من أمس، ماذا أفعل. هكذا تريد (وزيرة الخارجية الأميركية) كوندوليزا (رايس)... الله يهدّها».
كان التجوال في المدينة في يوم كهذا لا يجلب الكثير من الامل حتى في المطعم الشهير، «الكف الذهبية»، الذي لا يخلو عادةً من الزبائن. لكنه خالٍ هذه المرة. يجلس في إحدى زواياه ثلاثة من سكان المدينة: أبو طارق وأبو محمد وشخص ثالث لا يكشف عن اسمه. كان الثلاثة يتابعون الاخبار بعد تصديق مجلس الأمن الدولي على القرار بشأن لبنان. كان ابو طارق ينظر الى الشاشة من دون اعجاب «هذا قرار هذا؟! الله يلعن العرب». فردّ عليه أبو محمد: «لماذا أنت سوداوي؟ فيه قليل من الأمل».
يسكن مدينة عكا ما يقارب 50 ألف شخص، 40 في المئة منهم من العرب، وغالبية العرب يسكنون في البلدة القديمة: البيوت متراصّ بعضها على بعض وتمنع السلطات الإسرائيلية أصحاب البيت من ترميمها بحجة «الحفاظ على ملامحها القديمة». ممنوع البناء فيها. ثمة بيوت لا تدخلها اشعة الشمس، وثمة بيوت آيلة للسقوط لكنّ أهلها مصممون على البقاء فيها.
تحاول السلطات على مدار سنوات ان تخرج أهل عكا من بيوتهم لتحويل البلدة القديمة إلى بلدة سياحية من دون ان تنجح. «أين سنذهب؟» يقول الفنان خير فودة، من سكان البلدة القديمة، ويضيف «يحاولون ابعادنا والتضييق علينا لكننا باقون هنا... نعشق هذه البلدة ولن نتركها».
تقع البلدة القديمة بمحاذاة الميناء، وفي وسط الطريق المؤدية اليها من قلب السوق القديمة، جلس ثلاثة شبان تتوسطهم نرجيلة. كلهم من سكان عكا وكلهم اسمهم محمد. لكن أحجامهم وأعمارهم تختلف. كانت جلستهم تعرضهم لخطر الصواريخ المتساقطة على المدينة. لكنّهم مصممون على البقاء الى جانب النرجيلة. «إلى أين ندخل؟ إلى الملاجئ الجميلة؟ هنا الوضع اكثر أماناً.. الشارع أكثر أماناً من البيوت»، قال أحدهم، فيما ظل الاثنان الباقيان صامتين من دون حديث.
وراء الثلاثة، علّقت البلدية لافتة كتب عليها باللغة العبرية: «عكا قوية». صُمم الخط على شكل نجمة داوود، وفوق اللافتة اشارة «إلى الميناء».
كان المكان خالياً وبارداً افتقد ضجته المعهودة وصراخ الصيادين الآتي من كل حدب وصوب. كان بعض الاطفال يتراكضون على طوله ويصرخون بعضهم في بعض، منهم من يقفز الى الماء بطريقة هستيرية ومنهم من يحمل صنارته ويلقي بها في الماء، ليحيوا ولو القليل من ملامح الصيد الميت هناك منذ شهر.
قريباً منهم، على حافة القارب «سلطانة»، يجلس الصياد العكاوي عبد سعدي من دون عمل يذكر «لا يوجد اسماك. كل الأسماك تهرب من الصواريخ التي تسقط في البحر... السمك حساس لا يحتمل». وينضمّ صياد آخر الى المحادثة من بعيد فيقول «تخيل أني في آخر الزمن اصطاد بواسطة الغابة (الصنارة)... لم نلق شبكاً في البحر منذ شهر ولا نعرف متى ستنتهي القصة».
لم تولد أزمة الصيادين في عكا مع الحرب، بل تفاقمت. يقول سعدي، بغضب، «منذ عشر سنوات والبحر لا يحفظ أسماكه. كل المصانع الكيميائية ومعسكرات الجيش الممتدة على الشاطئ أبعدت الأسماك عن المنطقة».
لم تترك السلطات الصيادين في حالهم بل تضيّق عليهم يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد بناء معسكرات الجيش. بقيت منطقة صغيرة يسمح الصيد فيها، ومن يخالف القانون يواجه «غرامة تصل الى ألف دولار وعامين سجناً مع وقف التنفيذ... مثلما حكمت أنا بالضبط». ما يعاني منه أهل المدينة لا يؤثر كثيراً على مزاجهم. وهذا ما يميز أهل عكا. في القرى، يطلقون عليهم اسم «دراويش». وهم يعترفون بذلك. نادراً ما تقابل أحداً من دون لقب. ونادراً ما تلتقي أحداً من دون موهبة. وهذا ما خلق حركة فنية سوقية (بمعناها الايجابي) في المدينة.
فقد شكلت نخبة من الفنانين العكاويين فرقة اسمها «ولعت»، مؤلفة من شبان من المدينة، واشتهرت بلونها الغريب الحديث وجالت على القرى والمدن العربية: «بدأت من عكا والأغاني في عكا وهي بمكان ما اجابة واضحة للسلطات نقول من خلالها اننا شعب يستطيع ان ينتج فناً».
النهار يقترب من نهايته. نهار آخر يخيم على مدينة عكا وأهلها ينتظرون غداً افضل. قد يكون أفضل مع نهاية الحرب وعودة الحيوية لمدينة لا تعتمد إلا على من يسكن خارجها.
اختار فودة عند العودة أن يغني الاغنية التي اشتهرت، من كلماته وألحانه، اسمها «لو شربوا البحر».
تقول الاغنية:
لو شربوا البحر
ولو هدوا السور
لو حبسوا الهوا
أو سرقوا النور
ما ببيعا لعكا، بالدنيا كلها
ما ببدل حارتي ولا بقصور....