«والخوف يجي ليه؟من عدم الشوف»
(أحمد فؤاد نجم)


القاهرة | أعتقد لو أنني قررتُ التوجه إلى الأحياء الشرقية في حلب، في كانون الأول الماضي، لما تلقّيت تحذيرات بقدر تلك التي تلقّيتها ممن علم بأنني مسافرة إلى القاهرة! تحذيرات من السرقة، الخطف أو «الإخفاء القسري»، كيفية التعامل مع الشرطة، وطبعاً في مقدمة كل ذلك، التحرّش.

ولكن حينما تقصد القاهرة تدرك أن هناك مبالغة إلى حدٍّ ما في الصورة الخارجية عن المدينة. وأنّ المشكلة ليست فقط في سماتٍ جرميّة تجدها في المجتمع المصري (مثلما تجدها في غيره) ولا في سلوك السلطة مع المواطنين، بل هي أكبر من ذلك. ليس الاستثنائي ما يخيف في مصر، بل إنه «العادي».
يُقال إن «لكلٍ من إسمه نصيب». والقاهرة لا تشذّ عن القول المأثور. المدينة التي أطلق عليها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، اسمها، تعرف جيداً كيف «تقهر» معظم أبنائها وسكّانها.
المكان ضيّق برغم مساحة العاصمة الكبيرة. يمكنك بسهولة أن تشعر بصعوبة تنفّس الناس. التعب ينتقل كالوباء. ليس تعباً عادياً، بل إنه شعور الناس بأنهم «مطحونون». كل شيء يطحن الإنسان هنا، باعتراف المصريين أنفسهم. الوقت، الزحمة، الشوارع والميادين، الجسور، السماء التي تحجبها سحابة تلوث كبرى، الغبار، النيل المتسخ، النفايات في الشارع، والإعلانات التجارية العملاقة على مبانٍ باهتة مكدّسة. كأنّ كل ذلك يريد أن يطردك، كأنه يقول لك إن الحياة، حتماً، هي في مكان آخر.
تسأل عن سبب التشابه إلى هذا الحدّ في أشكال العمارات السكنية، فسرعان ما تأتيك الإجابة: «همّ يحمدوا ربنا إنهم لاقيين يسكنوا أصلاً». وما زلتَ في واجهة المدينة، لم تغص بعد في عشوائياتها ولا مقابرها التي تحوّل بعضها إلى مساكن.
في الزمالك بعضٌ من بيروت. وفي المعادي بعضٌ من دمشق. لكن القاهرة هي القاهرة، ولا تشبه إلا نفسها. إيقاعها السريع، وأناسها اللاهثون خلف حدٍّ أدنى من معيشة لائقة، أشياء تكفي لتشعرك بالثقل الذي يخيّم فوق المدينة. لوحة التعداد السكاني على طريق صلاح سالم، مطفأة، كأنما في استسلام لهذا الثقل. من هذه المسافة القريبة فقط تفهم كيف يصبح «الله» ضرورةً قصوى، في حياةٍ تختنق، وعلى أرضٍ تئنّ، وبين أفرادٍ قد يشعر كثير منهم بأنهم مجرد أرقام، من دون أفق واضحٍ أو مستقبل مرئيّ.

مع «انفتاح السادات»، بدأت القطيعة مع «الجمال» وأُفسح المجال واسعاً للقبح والرداءة

ليلُ المدينة أخفّ. والليل يخدع. يحتجب الغبار وتشعّ الأضواء، فتسترجع القاهرة شيئاً من بريقها القديم. يسهر المصريون كثيراً، ويتأخر بعضهم في مباشرة أعمالهم صباحاً. كأن هؤلاء لا يريدون الاعتراف بالمدينة في الضوء، كأنهم يهربون إلى ذلك السحر، الذي يجعلهم يتحررون من نهارٍ يبدو كأنه يتكرر إلى ما لا نهاية. لعلّ نهارات القاهرة هي أبلغ تجسيدٍ لفكرة العود الأبديّ.

بين السيف والشيخ

«إنت لو ركبتِ في ميكروباص قبل سنتين وقلتِ كلام سيئ عن السيسي، الكل كان هاجمك. دِلوقت مش هتلاقي اتنين يدافعوا عنّه»، يقول طارق (صحافي) بثقةٍ، شارحاً تراجع شعبية الرئيس بعد التطورات الأخيرة.
ليس عابراً في وجدان المصريين كل ما يحدث، ولا سيما قضية تيران وصنافير. لكن هذا لا يعني بالضرورة، أن السيسي سيختفي قريباً من المشهد العام. تلتقي بسياسيين وصحافيين، فيؤكد لك بعضهم أن السيسي سيحكم ولاية ثانية، وأن السنة المقبلة ستشهد انتعاشة اقتصادية مع مشاريع النفط المنتظرة، ما سيعيد ثقة الناس برجلٍ لم يعد في نظر الكثيرين، مثلما بدا في وقتٍ من الأوقات، «المخلّص الأخير». تسمع هذا الرأي من حزبيين معارضين تاريخياً، يبررون للسيسي «بعض الأخطاء» في الحكم، إذ إنه بالنسبة إليهم «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع الإرهاب». رأيٌ آخر يعارضه تماماً، ويؤكد أن شعبية الرئيس «منهارة»، وأن اللحظة مؤاتية الآن، بخلاف السنتين الماضيتين، لمواصلة العمل الثوري على الدولة العميقة وأجهزتها، وأن الإرهاب في شمال سيناء وفي أماكن أخرى لم يعد ذريعةً، و«خصوصاً أن الدولة أثبتت فشلها في التعامل معه».
وهناك رأي ثالث يرى أن «الثورة» على السيسي ستأتي من أجنحة الحكم نفسه. ضباطٌ كبار في الجيش، لم يحتملوا قضية التنازل عن الجزيرتين، ضباطٌ آخرون يرون أن السيسي «يحارب المسلمين والإسلام». أنباءٌ كافية لاستشراف مستقبلٍ ليس آمناً جداً لرأس السلطة الحالية، برغم كل مظاهر الدولة البوليسية الواضحة.
الانتشار الكثيف للشرطة، الجهاز الأكثر رعباً، في ميدان التحرير بعد المباراة النهائية لكأس الأمم الأفريقية بين مصر والكاميرون، يقول الكثير. لا تزال الدولة تخشى من التجمهر لأي سببٍ كان. ولكن لا تجمعات مثل تلك التي شهدناها في السنوات الماضية. والسبب؟ البعض يقول إن الناس يفضلون الاستقرار على المطالبة بحقوقهم، برغم الغلاء الذي لا يحتمل بعد قرار تعويم الجنيه، وهم يخشون تكرار سيناريوات السنوات الماضية. البعض الآخر يؤكد أنه القمع. فشبّان وشابات لا يزالون في المعتقلات، بسبب صورة على «فايسبوك»، أو بسبب التظاهر تحت عنوان مصرية تيران وصنافير.
لن تأخذ إجابة حاسمة على إشكالية علاقة المواطنين بالسلطة الحالية. لكن الأكيد أنها ليست الاستكانة. لقد أثبت المصريون أنهم مسيّسون حتى النخاع، وأنهم الأقدر على الحركة في محيطهم. لكن في أي اتجاه؟ يقول أحمد (كاتب يساري) إن تاريخ المنطقة يدور حول تنازع السلطة بين السيف (معاوية)، أو بين الشيخ (أهل البيت)، ليتابع أن المصريين جرّبوا في السنوات الأخيرة حكم السيف وحكم الشيخ، أي العسكر و«الإخوان»، ما يعني بالنسبة إليه، أننا أصبحنا في خواتيم هذه الدورة. «هذا الشعب قد يفاجئك في أي لحظة (...) من كان يظنّ حين شاهد فرحة المصريين بالفوز في كأس أفريقيا عام 2010، بأن هؤلاء أنفسهم سيقومون بثورة في السنة التالية؟».

مقاومة... ببليغ حمدي

على الكوبري الدائري، يطفئ سائق التاكسي الراديو الذي كان يبثّ أغاني من أسطوانة لإليسا، عند أذان المغرب. مشهدٌ مكثّف للذائقة العامة في «المحروسة» هذه الأيام.
«هل تعلمين أن محمد سلطان قال لي إنه في الأصل درس المحاماة، ظنّاً منه أنه هكذا ينال احترامي»؟ قال أستاذ الموسيقى الذي يتحدّث عن تدهور القيم وتبدّل المفاهيم في مجتمعه، فيما يُسمع في الخلفية لحن «خلّيكوا شاهدين» لفايزة أحمد، زوجة سلطان، في سهرةٍ في إحدى شقق الجيزة.
الموسيقي الكبير (سلطان) بات يخاف من «وصمة» الموسيقى أو الفن عموماً، في مجتمعٍ ينهشه غول التزمّت الذي، متغذياً من نيوليبرالية متوحّشة، يمثّل أكبر عدوّاً للجمال. قد تتعرض للإهانة من قبل البعض إذا وجدوك تستمع إلى الموسيقى، أو علموا بأنك تعمل في هذا المجال. مثلما تشهد مشاجرة بين محجبة وسافرة، فقط لأن الأولى تشعر بحقها في تلقين الثانية درساً في الأخلاق في وسط الشارع.
هذه عينات لا تصلح للتعميم. فالحكاية قديمة، وقد عرفت صعوداً ونزولاً، ولا سيما في السنوات الستّ الماضية. لكن ما لا شك فيه، أن جدراناً عالية في هذا البلد تحاصر الأشخاص الذين لا يزالون متمسكين بتراث فني وجمالي كبير، بدأ في خط النزول منذ سبعينيات القرن الماضي.
يتحصّن هؤلاء بالماضي، رفضاً لمآل بلدهم وناسهم. «يقاومون» حاضرهم بالموسيقى والشعر والأدب، تراقب كيف يستمعون إلى أغاني أم كلثوم وموسيقى محمد عبد الوهاب أو بليغ حمدي، فتجدهم كمن يطلب لجوءاً سياسياً في تلك النغمات وفي مصر «تلك».
يصف هؤلاء «شراسة» الناس التي لا تفهم سببها. «أنا أرى السيسي في وجوه الملايين هنا». تستفسر عما يقصده الرجل المشارك في هذه الجلسة، فيقول: «المصري الخاوي، الانتهازي، الذي فعلاً قد يبيع نفسه مقابل الفلوس»، في إحالة على جملة قالها السيسي صراحةً مرة، لتبرير مواصلة رهن البلاد إلى صندوق النقد الدولي، ثم بيع جزء من الأراضي المصرية للسعودية.
وبالحديث عن السعودية، الكلام لا ينتهي. يتذكّر أحد الساهرين كيف بدأ المصريون في السبعينيات يلبسون «الدشداشة» السعودية، مع بدء الهجرة إليها وإلى الخليج بعد الطفرة النفطية التي تزامنت مع «انفتاح» السادات. منذ ذلك الحين، بدأت القطيعة مع «الجمال»، وأُفسح المجال واسعاً للقبح والرداءة والانحطاط. تتذكّر رواية «ذات» للكاتب صنع الله ابرهيم التي رصدت هذا التحوّل التراجيدي، بين جمهوريتين وزمنين، دعمته تحولات دولية حاسمة، وانفجار سكّاني مهول.
قد يقول البعض إن هذا الكلام أصبح قديماً، وخصوصاً بعد «25 يناير» التي كانت نقطة تحوّل في التاريخ المصري ومثّلت أملاً بخلاصٍ ما. إلا أنه لا يزال صالحاً، طالما أن «المحروسة» لم تشهد أي قطيعة فعلية مع هذا التاريخ، لأسباب كثيرة، أولها النظام الاقتصادي المستمر بالشكل نفسه منذ «الجمهورية الثانية»، وصولاً إلى التزمّت الذي لا يبدو أن الدولة تريد علاجه فعلياً.
المشهد قاسٍ، وقد لا يكون الوصف دقيقاً ممن يسمح لنفسه بأن يكتب من موقع المتفرّج. وبالرغم من كل وجهات النظر والحكايات التي تسمعها في القاهرة، لن تخرج بخلاصة واضحة عن المآل والمستقبل. الأمر الوحيد الذي قد ينتشلك مؤقتاً من دوامة الأسئلة هذه، هو صوت محمد عبد الوهاب، الذي لا تستطيع أن تحدد مصدره تماماً، يقول صادحاً من بعيد: «ظمآنُ، والكأسُ في يديه، والحبّ والفنّ والجمال».