دمشق | مثلما تركت الحرب السوريّة آثارها السلبيّة على مختلف القطاعات الاقتصادية في سوريا، كذلك فقد أصابت قطاع الثروة الحيوانية بآثار كارثيّة. فالتهريب والنهب والقتل الممنهج، وسوء الرعاية الصحيّة، عوامل اجتمعت لتنال من ثروة كانت، حتى وقت قريب، تشكّل جزءاً رئيسياً من الدخل القومي، ومن الأمن الغذائي لسوريا. وقد تبدّى الواقع المأسوي، لهذا القطاع، بانخفاض ملحوظ للثروة الحيوانية، وسط تضارب، وتناقض الأرقام المتداولة، لصعوبة الإحصاء في ظلّ فوضى الحرب وتداعياتها.
رئيس جمعية «البدري»، في محافظة الحسكة، عبد الجاسم نجم، يقول: «لم يكن أمامي من خيار سوى المفاضلة بين المحافظة على حياة عائلتي، أو بيع قطيع أغنامي قبل أن يسرق، أو يموت جوعاً». ويتابع، في حديثه مع «الأخبار»: «توتر الأوضاع الأمنية في مدينة الحسكة، دفعني إلى بيع نحو 700 رأس، هو قوام القطيع الذي أملكه، وبسعر رخيص». ورغم ذلك، تبدو حال نجم أفضل من حال آخرين، فالمربي محمد نوّاف، من ريف دمشق، يؤكّد أنه خسر معظم أبقاره: «الحرب لم يسلم منها البشر، فكيف بالمواشي؟». وبحسب عبد الرحمن قرنقلة، مستشار اتحاد غرف الزراعة، فإنّ السبب في هذه الكارثة يعود إلى «توقف مصانع الأعلاف وتغيير حركة السكان الديموغرافية، ما اضطر المربين إلى الاستغناء عن قطعانهم، أو بيعها، أو نقلها من منطقة إلى أخرى، أو إلى بعض الدول المجاورة. وما زاد الطين بلةً، منع المواشي من ارتياد المراعي الطبيعية، المجانية، ومشاكل النقل ومخاطره، بحيث تعذّر نقل مستلزمات الإنتاج، أو نقل المنتجات إلى الأسواق». كما يذكر قرنفلة أنّ ارتفاع أسعار المواد العلفية يدفع المربي إلى بيع نصف قطيعه، لتأمين إطعام النصف الآخر، مشيراً إلى أنّ غلاء مستلزمات الإنتاج تسبّب بارتفاع أسعار المنتجات، وتراجع كمياتها، «إضافة إلى ظهور سلع مغشوشة وقلب معادلة التصدير والاستيراد، ولا سيما بعد تراجع حجم الاستثمار في قطاع الدواجن بين 40-70%، والأغنام 35%، والأبقار 50%، وبالتالي ساد القلق بين المربين، نظراً إلى عدم جدوى هذه المهنة اقتصادياً».
ويؤكد، أيضاً، معاون وزير الزراعة لشؤون الثروة الحيوانية، أحمد قاديش، هذا الوضع القاتم بقوله: «لقد تعرضت هذه الثروة لضرر كبير، نتيجة وجودها في مناطق ريفية بعيدة، وتهريبها، وذبح الخيول العربية والأبقار والأغنام والماعز، بسبب غياب الرقابة، وتعرض مراكز البحوث المتخصصة للاعتداءات الإرهابية، علماً بأن تأثير الأزمة كان الأخطر عليها، لصعوبة استرجاع القطيع، وترميمه».

سوق التهريب تزدهر

انتعشت ظاهرة تهريب الثروة الحيوانية، وسط فوضى الحرب، ضمن خطة ممنهجة لتدمير الاقتصاد السوري. فارتفاع سعر الصرف، وتباينه بين سوريا والدول المجاورة، أحدث نزفاً حاداً لهذا القطاع، وفق رأي قرنقلة: «البقرة الواحدة تباع في أسواق لبنان بـ 250 ألف ليرة، ورأس الغنم بـ 45 ألف ليرة»، علماً بأن عمليات الاعتداء لم تشمل التهريب فقط، وإنما الهجوم على مراكز البحوث العلمية، وتخريب المادة الوراثية، المشغول عليها سنوات طويلة». ويؤكد الأستاذ في كلية الاقتصاد، في جامعة دمشق، هيثم عيسى، أن «قطعان المواشي تضررت مباشرة، بعد سرقة المجموعات المسلحة أعداداً منها، للبيع في السوق الداخلية، أو تهريبها إلى الدول المجاورة، لا بقصد الربح المادي فقط، وإنما للتخريب، وترهيب أصحابها».

الأعلاف... أزمة أخرى

الحكومة السوريّة تقدّم «من الجمل أذنه» في مجال تأمين الأعلاف لمربي المواشي. ويجزم عماد عبد الرحيم، مدير مكتب الثروة الحيوانية في الاتحاد العام للفلاحين، أنّ المشكلة الرئيسية تتمثّل بالأعلاف «فالمؤسسة العامة للأعلاف تقدم فقط 12% من الحاجة الفعلية، وسط صعوبة بالغة بوصول المخصصات العلفية واللقاحات». غير أنّ معاون وزير الزراعة ينفي وجود تقصير، بهذا الخصوص، شارحاً: «حاولنا، ضمن الإمكانات المتاحة، تخفيف الأعباء على المربين. لكن الأزمة كبيرة، فالخدمات السابقة، كاللقاحات، لا تزال تقدم، ويتمّ إيصالها بطرق جديدة.

تراجع حجم الاستثمار في قطاع الدواجن بين 40-70%، والأبقار 50%

كما وزّعت الوزارة مقنناً علفياً بقيمة 9 مليارات ليرة»، مبدياً تفاؤله، الحذر، حول إمكانية توافر المشتقات الحيوانية في السوق، رغم سوء وضع الإنتاج الحيواني، «وفي حال وجود منتجات مغشوشة، فالمربي لا يتحمّل مسؤوليتها». أمّا مستشار اتحاد الغرف الزراعية، فيعيد المشكلة إلى جذورها، حين يقول: «تعوّد الفلاح الحصول على (بونات) لاستيراد الأعلاف، بينما كان من المفترض تعويده على إيجاد مصادر علفية بديلة، وخاصة أن سوريا تمتلك 14 مليون طن، تقريباً، من المخلفات الزراعية المهدورة، التي يمكن تحسينها لتشكل مورداً علفياً هاماً».

تناقض الرقم... ليس جديداً

تناقض الرقم الإحصائي للثروة الحيوانية يعدّ مشكلة قديمة جديدة. غير أن الحرب منحت الجهات المعنية حجّة مقبولة لعدم توافر أرقام دقيقة. ففي الإحصائية الأخيرة، الصادرة عام 2013، تجاوز عدد رؤوس الأغنام 18 مليون رأس، والماعز 2,292 مليون رأس، أما الأبقار فبلغت 1,113 مليون رأس، والدواجن 19187 طيراً. وهي أرقام تتقارب مع عام 2011، وبشكل ينفي صفة الواقعية عنها، لتضرر هذا القطاع بدرجة كبيرة. وعن هذا يقول معاون وزير الزراعة: «اعتمدنا في عام 2013 على إحصائية 2010-2011، لصعوبة تعداد الثروة الحيوانية. لكن سيصدر، قريباً، تقويم جديد لأعدادها. وبالعموم، توجد مؤشرات تؤكد حصول نقص واضح، يصعب تحديده». فيما يجد مدير مكتب الثروة الحيوانية، في اتحاد الفلاحين، أن هذه الإحصائية منطقية، ويبرر رأيه بأن «المواشي رُحّلت من مكان إلى آخر، مع حصول ولادات جديدة تعوض الخسائر، لتكون نسبة تقلص أعدادها بحدود 10-20% فقط»، ليعود ويشدّد على صعوبة إعطاء رقم دقيق، في ظل انقطاع الاتصال مع المحافظات الأخرى «وخاصة الرقة ودير الزور».
ولا يجد قرنقلة مسألة تناقض الرقم، ودقته، أمراً مهماً حالياً، «فالمربي يتطلع إلى مرحلة إعادة الأمان والاستقرار، لذا المطلوب بناء استراتيجيات ما بعد الأزمة لضمان استرجاع قطعان الثروة الحيوانية عبر سياسات داعمة، كاستيراد أبقار متخصصة بإنتاج صنف محدد، لكون سوريا تمتلك أبقاراً ثنائية العرق فقط، وحالياً تعمل وزارة الزراعة على استيراد أبقار متخصصة بإنتاج اللحوم، بينما يتجه اتحاد غرف الزراعة لاستيراد سلسلة أبقار متخصصة بإنتاج الحليب، لصالح المزارعين».

هكذا يوقف نزفها

يتفق كثير من المهتمين على أن الإجراءات المتخذة، لحماية الثروة الحيوانية، لم ترتق إلى مستوى أهميتها، وهو ما يرفضه معاون وزير الزراعة، «لولا إجراءاتنا لكان لوضع أسوأ بكثير، بدليل السماح بتصدير البيض أخيراً، كما أنتجت الوزارة حوالى 70% من اللقاح المحلي للأبقار، و600 ألف قشة للتلقيح الصناعي، وقامت بتوزيع 300 ألف ليتر سائل آزوتي، مع السماح بنقل معامل الأدوية البيطرية إلى المناطق الآمنة، للاستمرار في الإنتاج». فيما شدّد قرنقلة على ضرورة إحداث وزارة مستقلة، للثروة الحيوانية، كون مساهمتها الفعلية تبلغ 55% من الإنتاج الزراعي، ومنح القطاع الخاص الدور الأكبر لتنميتها، شرط تنظيمه، «عبر إقامة اتحادات نوعية متخصصة، ويكون دور الحكومة داعماً، على مستوى السياسات والإرشاد والبحث العلمي، مع تأسيس قاعدة للموارد العلفية، تستند إلى تحسين استخدام المخلفات الزراعية، وتشجيع التنمية الرأسية، عبر إقامة مزارع كبيرة، لجدواها الاقتصادية».