كي تتمكن من الوصول إلى منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية، في أقصى الشمال السوري، هناك مقوّمات يجب أن تحظى بها، ناهيك عن اتخاذ إجراءات احترازية. عليك، أوّلاً، ألّا تكونَ كرديّاً، فهذه «التهمة» وحدها كفيلة بتحويلكَ رقماً في قائمة المخطوفين أو الأموات. ويُنصح أيضاً بإرخاء اللحية أطول فترة ممكنة، ثمّ تشذيبها، علاوةً على ارتداء ملابس قديمة، والحرص على اقتناء هاتف جوّال قديم الطراز، وعدم حمل حقيبة أو حتى كيس. وعلى سبيل الاحتياط، جهّز روايةً مُقنعةً لسبب ذهابك إلى «مدينة سكّانها كفَرة»، من قَبيل «زيارة أقارب نزحوا إلى عفرين هرباً من القصفِ الوحشي منذ بدايات الثورة».
وستكون محظوظاً إذا كنت منحدراً من جذور ريفيّة، فذلك يجعل روايَتك أكثر قابلية للتصديق. وبطبيعة الحال عليكَ أن تختار سائقاً غير كرديّ، وخبيراً بالطرقِ والمسارب الموصلة إلى المنطقة. إذ أن كل هذه الاحتياطات قد لا تفيد إذا سلكتَ طريقاً مليئاً بالحواجز، وكلّما كان عدد الحواجز أقلّ، كانت احتمالات الوصول بسلامة أكبر.
وترزح المنطقة تحت حصارٍ خانق فرضه تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، وسط تجاهل اعلامي تام. والحصار ليس الأول من نوعه، وإن كان الأقسى. فقد أمضت المنطقة معظم العام المنصرم تحت حصار فرضته في حزيران الماضي مجموعاتٌ مسلّحة محسوبة، حينها، على «الجيش الحر». أبرزها «جبهة تحرير سوريا الإسلامية» متمثلة بـ «لواء التوحيد»، و«حركة أحرار الشام»، بحجة استهداف حزب العمال الكردستاني (PKK) «المعادي للثورة والثوار». ومنذ مطلع كانون الأول الماضي، بات الحصار في يد «داعش»، وشهد إجراءات أكثر تشدداً، واعتبر سكّانها، خصوصاً الأكراد، «هدفاً مشروعاً». وقد تجاوز عدد المخطوفين المئتين بينهم نساء وأطفال، وسُجلت حالات خطف جماعية، طال آخرها 50 شخصاً في مدينة الدّانا كانوا في طريقهم إلى لبنان بحثاً عن عمل.


تركيّا شريك في الحصار

يقع بعض قرى منطقة عفرين على الشريط الحدودي مع تركيا. لا وجود لمعابر رسميّة، والمعبر الأقرب هو «باب السلامة» الواقع تحت سيطرة «داعش». رغم ذلك «كان بإمكان الحكومة التركيّة التخفيف من آثار الحصار»، يقول فرهاد، ابن عفرين. ويضيف: «يحاول البعض اختراق الحصار عبر تهريب مواد غذائيّة من تركيّا. لكن هذه المحاولات تصطدم في معظم الأحيان بتشدد أمني تركي وكأن تهريب الغذاء أخطر من إدخال الأسلحة والجهاديين». ويؤكد فرهاد أنّ السلطات التركية تشدّد إجراءاتها في معظم المناطق الحدودية المحاذية لمناطق سكن الأكراد السوريين، ويطلق جنود أتراك النار على من يحاولون اجتياز الحدود قرب مدينة الدرباسية، في محافظة الحسكة، ما يؤدي الى سقوط قتلى وجرحى.
رغم ذلك، تسير الحياة داخل عفرين بطريقة منظّمة. لا شيء يوحي بغياب الدولة. شؤون المنطقة تديرها مؤسسات المجتمع المدني، وتُعنى المجالس المحليّة بالجوانب الخَدميّة. الحالة الأمنيّة شبه مستقرّة. وتتولى وحدات حماية الشعب (YPG) حماية المدينة والقرى التابعة لها. فيما يتولى عناصر «الأسايش» حفظ الأمن. كما يُسجل حضور لمسلحي العمال الكردستاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). لكنّ انتشارهم يتركز على مداخل المدينة، وفي نقاط محدودة. ويواصل المزارعون العمل في أراضيهم، رغم ارتفاع التكاليف وصعوبة التصريف. المحالّ التجارية مفتوحة، رغم أن حركة البيع والشراء محدودة. تنتشر «البسطات» في الأسواق الشعبيّة، وبات معظم أبناء المدينة يُفضلون الاعتماد عليها لشراء حاجياتهم الأساسية. تقول إحدى السيدات: «حتى بضائع البسطات لم تعد رخيصة، لكنها أرخص مقارنةٍ بأسعار المحال، وبالعموم لم نعد نشتري إلا الضروري».
الاشتراك في مولّدات الكهرباء الضخمة التي تنتشر بكثرة بات الوسيلة الوحيدة للتعويض عن الانقطاع التام للتيار الكهربائي، فيما مياه الشرب أيضاً مقطوعة، وباتت الآبار هي البديل الوحيد. الاتصالات باستخدام الهاتف الثابت ممكنةٌ بين النواحي، والشبكتان الخليويّتان السوريتان مُتاحتان، مع انقطاعاتٍ متقطّعة. فيما يستخدم بعض أبناء القرى القريبة من الحدود خطوطاً خليويّة تركيّة، أمّا الأنترنت فيتم التزوّد به بواسطة «الساتلايت التركي».
توجد فوارق شاسعةٌ بين حي الأشرفيّة الواقع شرق المدينة، وحي الأوتوستراد في غربها، لكنّ الحصار جعل بينهما قواسمَ مشتركة كثيرة. الاختلاف الواضحُ في المستوى المعيشي بين الحيين لا يُغير من حقيقة أن الهم المعيشي بات هاجس الجميع. التوجّس من مخاطر «الداعشيين» حاضر في أحاديث سكّان الحيين، كما في أحاديث سكّان كل الأحياء. الغلاء الفاحش في أسعار المواد، والتخوّف من استمرار الحصار وتبعاته على كلّ لسان. يتداول الكلّ أخبار «البورصة»، والأرقام القياسية التي حققتها. سعر البندورة سجّل في بعض الأحيان 450 ليرة للكيلوغرام الواحد (أكثر من 3 دولارات). وسجّل كيلو السكر 250 ليرة. وكيس الطحين 9500. كيلو الخبز تجاوز في بعض الأحيان150 ليرة. كيلو اللحم تراوح بين 1200 و1600 ليرة. والدجاج بين 500 و800 ليرة. وتبقى الخشية من نفاذ مخزون حليب الأطفال والأدوية أسوأ الكوابيس. يعتمد معظم السكان في غذائهم على المنتج الزراعي المحلي، وأكثر الوجباتِ تناولاً البطاطا، والبرغل، والرز. إضافةً إلى الزيت والزعتر، والزيتون والعطّون.
يعتمد الاقتصادُ المحليُّ بالدرجة الاولى على زراعة الزيتون (نحو 15 مليون شجرة)، وبالتالي على زيته. ما يجعلَ موسم الزيت والزيتون هو المورد الأساس. يقول أبو نضال للأخبار: «اعتدنا تأجيل كل الاستحقاقات إلى موسم الزيتون. لكنّ البضائعَ لم تصرّف هذا الموسم، باستثناء بعض الاستهلاك المحلي». يستعرضُ المستودع المليء بمخزون الزيت، ويطلقُ تنهيدةً طويلة: «خذ الكميّة التي تشاء بالسعر الذي تريد، لكن عليكَ ان تتمكن من إخراجها من عفرين». ويضيف «لم يتجاوز سعر تنكة الزيت (16 كيلو) 4500 ليرة للنخب الأوّل، ما أضرَّ بالناس. معظم الانتاج بقي ضمن المنطقة بسبب الحصار». وتجدر الإشارة إلى أن سعر التنكة وصل في حلب إلى الضعف، والمفارقة أنّ كميات من الزيت قد تمّ تهريبُها من عفرين إلى تركيّا، قبل أن «تُصدّر» إلى حلب.
ما أصابَ موسم الزيت والزيتون ينسحب أيضاً على موسم الرمّان. لم يتجاوز سعر «السّحّارة» زِنة 10 كيلو حاجز المئة ليرة (أقل من دولار واحد). والمصيبة أن التكلفة تجاوزت 25 ليرة للكيلو الواحد، خاصةً في ظلِّ ارتفاع أسعار المحروقات، في حال توافرها. ولم يقتصر شحّ الموارد الماليّة على المزارعين فقط. بل طالت الأزمة الموظفين أيضاً، إذ اعتادَ كثيرٌ منهم التوجه إلى حلب مطلع كل شهر لقبضِ رواتبهم. الأمر الذي أصبحَ متعذراً في ظل الحصار والتهديد بالخطف.


معاداة أردوغان والتكفيريين

لا يبدي أبناء عفرين قلقاً بخصوص المستقبل. يؤمنون بقدرتهم على كسب التّحديات إذا ما حُلّت الأزمة السوريّة. يثق معظمهم بقدرتهم على «لعب السياسة». لا يوافقون على اتهامهم بوجود «نزعة انفصالية» لديهم. لكنهم يجدون أن حصولهم على «الإدارة الذّاتيّة» حقّ مشروع. هل يعني ذلك أنهم تلقوا وعوداً بذلك من الدولة السورية؟ يتحاشى جوان، الناشط في أحد الأحزاب، تقديم إجابة قاطعة. يقول: «نحن سوريون، ونحبّ هذه البلاد. لنا الحق في إدارة شؤوننا ذاتيّاً، وسنحصلُ على ذلك».
يسخر أحد متطوعي «وحدات حماية الشعب» من اتهام الأكراد بأنهم «شبّيحة للنظام». ويقول إنّ «حال بعض اطراف المعارضة السورية مثير للشفقة. يريدون من الجميع أن يتصرفوا على هواهم، رغم أنهم لا يمتلكون قرارهم. هناك عنصران أساسيان أفسدا المعارضة: أردوغان والتكفيريون». تبدو معاداة هذين «العنصرين» قاسماً مشتركاً بين معظم التنظيمات الكردية والنظام السوري. «لكنّ هذا لا يعني اتفاقنا مع النظام على كل شيء» يقول فرهاد. ويضيف: «انظر حولَك.. يمكنكَ أن ترى كثيراً من الأعلام والصور، لكنّ المؤكد أنك لن ترى يوماً أعلاماً سوداء، أو صورةً لأردوغان في عفرين. لن يحدث ذلك إلا على جثثنا».




«كوباني» بين تركيا والتكفيريين

عاشت مدينة عين العرب (كوباني كما يحلو لأبنائها الأكراد تسميتها، والواقعة أقصى الشمال الحلبي، مباشرة على الحدود السورية ــ التركية) حصاراً مماثلاً لذلك الذي فُرض على منطقة عفرين. يوضح الصحافي نزهت شاهين لـ«الأخبار» أنّ مفاعيل الحصار بدأت بالانعكاس على حياة الناس، بدءاً من النصف الثاني للشهر الماضي. وكادت المنطقة تقع في أزمة معيشية: «وصلت نسبة الزيادة على أسعار بعض السلع إلى 50%، وكميات المحروقات المخزنة بدأت بالنفاد». يُشكّل الأكراد السوريون النسبة الأكبر (نحو 97%) من عدد السكان الذي يُقدّر بـ600 ألف نسمة. كذلك يسكن عين العرب نحو 300 ألف من أبناء المناطق الساخنة ممّن اختاروا النزوح إليها (وهم عرب سوريون). يعيش هؤلاء في ظروف جيدة نسبياً، لهم ما لأبناء المدينة، وعليهم ما عليهم. قبل الحصار الأخير كانت المعونات الغذائية تصل إلى المدينة، ومن مصادر عدّة، من بينها «كردستان العراق»، ومنظمات أوروبية مستقلة، إضافة إلى معونات ترسلها منظمة الهلال الأحمر السوري. وتوقفت تلك المعونات، قبل شهر رمضان الأخير، بسبب تردي الأوضاع الأمنية على الطرقات الموصلة إلى المدينة، ونتيجةً لتكرار الحصار. يُشكل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي واحداً من أبرز الصعوبات التي تعيشها المدينة، رغم أن محطة الكهرباء المسؤولة عن تغذية المدينة تقع على بعد 35 كم فقط (في بلدة الشيوخ جنوب غرب عين العرب). الاتصالات باستخدام الهواتف الثابنة متاحة داخل المدينة، أما الخطوط الخلوية السورية فمتوقفة منذ عام، ويعتمد السكان على الخطوط التركية.
الوضع الأمني داخل المدينة مستقر، وتتولى قوات «الأسايش» مهمة ضبطه. كذلك تتولى «وحدات حماية الشعب» الكردي الدفاع عن المدينة. وكما هي الحال في منطقة عفرين، تواصل جميع الدوائر الرسمية عملها بإدارة محلية.
الخشية من تجدد الحصار تبدو سبباً وجيهاً لمحاولات فتح البوابة الحدودية مع تركيا. يقول شاهين: «هناك بوابة حدودية رسمية، اسمها بوابة سروج. لكنها مغلقة منذ أربعين عاماً. ويسعى المجلس الوطني الكردي للوصول إلى اتفاق مع السلطات التركية لإعادة فتحها، بالتنسيق مع الهلال الأحمر السوري».



العمليّة التعليميّة بخير


نجحت المؤسسات المدنية في الحفاظ على سير التعليم في المدارس رغم الأوضاع. يتلقّى الطلّاب دروسَهم باللغة العربيّة، وفقاً للمنهاج السوري الرسمي، باستثناء مادة «القوميّة» التي لا تُدرّس. كما يتم تدريس «الكرديّة» بوصفها مادةً مستقلّة. يتحدّث البعضُ عن مساعٍ لتدريس المنهاج مستقبلاً باللغة الكردية، وإضافة اللغة العربية كمادة مستقلة. يتولّى التعليم الكادر التدريسي ذاته الذي كان قبل الأزمة، ويتقاضى المعلمون رواتبهم من الحكومة. أما مدرّسو اللغة الكرديّة فمتطوعون. يقول عبدو لـ «الأخبار»: «أعطي دروساً لطلاب إحدى المدارس، لا أريدَ أجراً مقابل ذلك. هذا أقلّ ما ينبغي علينا القيام به ريثما يتم تأهيل مدرسين للغة الكردية». تمّ مؤخراً افتتاح معهد «فيان امارا» لتخريج مدرسين للغة الكرديّة، ويدرس فيه حاليا 700 طالب من حملة الشهادات الجامعية والثانوية. احتياجات المدارس يتم تأمينها ذاتياً عبر تبرعات الأهالي. وتُخصص «حركة المجتمع الديمقراطي» ميزانية لتأمين التدفئة والكتب، وغيرها من المستلزمات. لا يقتصرُ ارتياد المدارس على أبناء المنطقة فحسب. بل يرتادها أيضاً أبناء الأسر التي وفدت إلى عفرين من حلب، وبعض مناطق الريف. وربما كان وجودُ هؤلاء النازحين السبب الوحيد الذي يجعلُك تسمعُ حديثاً عابراً باللغة العربية لدى تجوالك في المدينة.