خالد جمعة *حين يتطرق احدهم الى أرقام الشهداء، ويكون عددهم تسعين ألفاً مثلاً فيكتب انهم مئة وثلاثون ألفاً، فمن الذي يستهين بالشهداء هنا؟ هذا الذي يكتب؟ أم من لا تكفيه أرواح التسعين ألفاً فيزيدهم؟ كنت أقدم أعداد الشهداء إلى وزير الصحة حين عملت في الهيئة العامة للاستعلامات، وكان بدوره يعقد مؤتمراً صحافياً يوميا بداية الانتفاضة الثانية، ودائماً كان يزيد من خمسة إلى عشرة أرقام فوق الرقم الذي أعطيه إياه، والذي كنت آتي به من طوارئ المستشفيات في الضفة وغزة، على نحو رسمي، وحين سألته مرة قال «ما أعطيه هو رقم سياسي»! حسنا، نتيجة هذا الرقم السياسي سيادة الوزير لم يعد العالم يثق بأرقامنا.

البكاء واللطم على صفحات الفيس بوك هو المزوَّر، لا التفكير وطرح الأسئلة، فالحميمية في العلاقة مع المآسي الإنسانية لا تحتاج إلى إظهار حزننا على نحو استعراضي، فكثيراً ما أشاهد أشخاصاً يكتبون كلاماً «يقطع القلب» عن حادثة معينة، لينشروا بعدها بدقائق نكتة أو يضعوا صورة لأظافر مطلية بالزهري! فعن أي مشاعر نتحدث هنا؟
من السهل كتابة نص يجعل الآخرين يبكون، بل وينتفون شعرهم، لكن هذا التفريغ للانفعالات بم سيفيدنا بعد عشر دقائق؟ ما هو المهم، أن نسطح القضية ونبكي عليها، أم نعمقها ونحاول فهمها على نحو أفضل عبر طرح الأسئلة؟
*الألم ليس وقفاً على أحد، هناك من يخجلون من ذكر ما حدث معهم على المستوى الشخصي من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه يمكنهم أن يكتبوا عما يعانيه الآخرون باستفاضة، وفي ظل ضيق الأفق لبعض الذين تعنيهم الحقائق المباشرة، إذا أنت لم تتحدث عما تفعله لأجل مأساة ما، حتى على المستوى المادي، فكأنك لم تفعل! أعرف أناساً مثلاً تبرعوا برواتبهم القليلة، وعاشوا شهراً كاملاً على البطاطا والطماطم والزعتر، كي ينقذوا أشخاصاً من البرد، ولم يعلم بهم أحد لأنهم اشترطوا أن لا يذكر أحد أسماءهم في الإعلام، هؤلاء لدى الكثيرين غير موجودين ولم يفعلوا شيئاً لمصلحة الجوعى والبردانين.
** ثبت أن الكثير من المثقفين الفلسطينيين، أو دعوني أقولها ببساطة، من يملكون سمعة أنهم مثقفون، لا يمكنهم استيعاب أي رأي يخالف رأيهم! وحين يبدأ النقاش، فإن اللغة المستخدمة هي لغة شوارع، ليس فيها غير التجريح والتخوين والسباب، وحتى حين يجري الرد على الإسرائيليين في موقف ما، يكون الرد بالأسلوب نفسه: فأيّ الموقفين أفضل؟ أن ترد على هذا الذي لا توافقه بحقائق توضح صواب موقفك حتى لو كان إسرائيلياً؟ أو أن تقول له: أنت ابن كلب وسافل وحقير؟
ببساطة أكثر: حين نرد بالشتائم فنحن مفلسون فكرياً، هذا ما أفهمه.
** من حق أي شخص أن ينتمي إلى «مجموعة» تتناسب مع أفكاره وسلوكياته، وتستوعب طريقته في الحياة، ومن حقه أيضاً أن يرفض أي «مجموعة» أخرى بغض النظر عن مبرراته، هو حر في الحالتين، الذي ليس من حق أي شخص، هو أن يضع نفسه ومجموعته مكان الأنبياء، ويضع الآخرين مكان كفار مكة، فالآخرون يستطيعون أيضاً أن يهاجموك بالطريقة نفسه، وكونهم لا يفعلون ذلك لا يعني عدم مقدرتهم عليه، فكِّر في أنهم ربما يتعالون على الرد بالأسلوب نفسه، فربما غيرتَ طريقتك في معاملتهم.
* كما أنّ للشعب الفلسطيني مأساته وضحاياه، فإن للكثير من الشعوب مآسيها، وحين لا نبدي التعاطف مع مآسي الشعوب الأخرى، فلا حق لنا في أن نلومهم حين يقفون صامتين تجاه ما يجري لنا.
** ليس من المطلوب من أي شخص في الدنيا أن يكون محايداً ويقف على نفس المسافة بين موقفين، هذا مفهوم وبديهي، لكن من المطلوب أن يكون موضوعياً، وإذا لم يتضح الفرق، يمكن أن نقول إننا حين نشجع ريال مدريد مثلاً، لا يمكننا أن نكون حياديين إذا لعب مع برشلونة، لكن الموضوعية تقتضي أن نقول: لم نكن نستحق الفوز، أو أن هدف فريقنا كان تسللاً، هذا لا يعني أننا لا نحب فريقنا، بالمناسبة، أتمنى أن ينطبق هذا على السياسة الفلسطينية والثقافة الفلسطينية كذلك.
** لا يعني انتقاد الشعب الفلسطيني في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولا في أي مكان، أن من ينتقد قد تجرد من فلسطينيته أو أصبح على النقيض، فالنقد في أحيان كثيرة يأتي من الرغبة في أن يكون الظرف أفضل والمسلكيات أكثر رقياً، فلا يضع أحد نفسه في مكان الله كي يحكم على البشر، ليس فقط لأنه لا أحد خالٍ من العيوب، لكن لأن الدنيا وجهات نظر، وسياقات، وما لم نؤمن بهذا فإننا لن نكون أبناء الحياة مهما كانت صورتنا أمام أنفسنا.
* كاتب فلسطيني