ليس في إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق إماراتي إسرائيلي لتطبيع العلاقات جديد، فالعمل جار منذ سنوات على تأهيل شروط اللحظة التطبيعية بين الكيان وعدد من الدول العربية. ما ينقص بلوغ «الشياع» هو عامل الوقت ليس إلا، فكان ميقاتاً انتخابياً بامتياز، أريد منه، على نحو دقيق، فعل إنقاذ في الوقت المستقطع للسباق الرئاسي.
أوراق ترامب الانتخابية تحترق تباعاً في سعير كورونا الذي يلتهم وعوده، على وقع الانتشار البرقي للوباء داخل بلاده، في ظل عجز شبه تام عن وقف تمدّد العدوى، وارتفاع أعداد الإصابات والوفيات، إذ تحتل أميركا المرتبة الأولى عالمياً (وتمثل ربع الإصابات على مستوى العالم بأكثر من 5 ملايين نسمة).
هذه العربة سوف تمرّ من المنامة، والدوحة، والخرطوم، وسوف تتزوّد بما يعينها على إرغام بقية المتردّدين
إخفاقات ترامب في الملف الصحي، وتالياً الاقتصادي والمعيشي، أوصلته إلى اقتناع بأن حظوظه في السباق الرئاسي تتناقص على نحو سريع للغاية. وقد أفصح علناً عن احتمالية خسارته في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وهذا يفسّر سلوكه الهستيري في الأيام الأخيرة. وقد بدا انتحارياً، وكان على استعداد لأن يذهب إلى أبعد الحدود في الخصومة مع غريمه الديموقراطي، جو بايدن، فاختار أن يتقمص دور «المكفّراتي»، ولكن بنسخة يمينية رديئة بشيطنة بايدن، متّهماً إياه بأنه «ضد الله وضد الإنجيل». كل مواقيت التطبيع تخضع لاعتبارات أطرافها المباشرين، ولكن هذه المرة فإن التطبيع كان إنقاذياً للراعي، أي لترامب الذي يستبدّ به ذعر الهزيمة الانتخابية وما بعدها.
لناحية الإمارات، فالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ليس عزفاً منفرداً، بل يمثل الصوت المبحوح للرباعية العربية (مصر والسعودية والامارات والبحرين). وسواء قرّرت الرياض أن تكون التالية في مسلسل الدول المطبّعة مع إسرائيل أو اختارت أن تدفع البقيّة إلى الحظيرة (بلغة الشاعر أحمد مطر)، قبل الالتحاق بها في الأخير، فذلك يتوقف على المفعول السياسي والانتخابي. وقد بات دخول البحرين إلى حلبة التطبيع مسألة وقت، ووقت قصير جداً، وسوف نشهد تسارعاً في حركة التطبيع خليجياً وعربياً في سياق «خطة طوارئ» إنقاذية ترفع من الرصيد الانتخابي للرئيس ترامب.
وإذا كان التطبيع الإماراتي الإسرائيلي يأتي في لحظة الموت السريري للنظام الرسمي العربي، ومرحلة تشظي أوطان العرب، والحروب الأهلية المشتعلة في أرجائها، فإن أخطر ما فيه أنه يمثّل الفرصة الاستثنائية لجني أرباح سنوات من التمهيد شاركت فيه دول، ومؤسسات إعلامية، وشخصيات نافذة ثقافية وأدبية (على مستوى الخليج بوجه خاص)، حتى باتت حجج التطبيع أقوى من حجة أصحاب الأرض، وبات التبجّح في وصم المقاومة الفلسطينية علناً ويملأ الفضاء العربي ويبث عبر فضائيات خليجية، فيما ينطق الإسرائيلي على لسان كتّاب وإعلاميين من أهل الدار.
إسرائيلياً، كان التطبيع فرصة لكسر طوق السرّية في العلاقات مع قادة عرب وخليجيين. كان نتنياهو، الغارق في أزماته الداخلية، بحاجة هو الآخر إلى «منقذ». وكان يردد مراراً أن لكيانه علاقات استراتيجية مع قادة عرب، وكأنه يستدرج إعلان العلاقات بدل إبقائها قيد السرّية، فشرعية الكيان الإسرائيلي متوقفة على إزالة موانع التعايش مع خصومه (أصدقائه الجدد)، وحين يتنفس في بحر بلا حدود.
لقد أبدى الخليجيون سخاءً غير معهود مع «أعداء الأمّة»، فيما غابوا، أيّما غياب، عن لبنان بعد فاجعة المرفأ في 4 آب/أغسطس الجاري. تلك هي «لحظة الخليج» التي بشّر بها الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، مؤلف الكتاب بالعنوان نفسه. إن التموضعات الجديدة، أو بالأحرى المتجدّدة، لأقطاب خليجية تقودها السعودية والإمارات كفيلة برسم المشهد القادم، خليجياً على الأقل.
السؤال: هل نحن على موعد مع تحوّل تاريخي؟
الإجابة ليست بسيطة، ولكن ما يبطنه المشهد هو الآخر يحملنا على عدم الاطمئنان، في ظل حكومات تآكلت مشروعياتها الشعبية، ولكن في الوقت نفسه أوصلت شعوبها إلى نقطة القنوط واليأس من ولادة أمل جديد يبعث الروح في نفوس من تحطّمت أحلامهم داخل حدود «الأوطان المسروقة».
ما يلزم التأهب له في الأيام القادمة، وبعد الخطوة الإماراتية، هو مراقبة حركة عربة التطبيع التي سوف تحمل معها نذر بؤس العرب، وحصائد خيباتهم، وانقساماتهم. فهذه العربة سوف تمرّ من المنامة، والدوحة، والخرطوم، وسوف تتزوّد بما يعينها على إرغام بقية المتردّدين خوفاً أو المتوارين خجلاً. ليس في فعل التطبيع ما يستوجب الهلع، حين يصبح جماعياً، وكذلك العار، لا يغدو عاراً حين يكون سمة الجميع.
وإذا قلبنا المعادلة، مع الاعتذار للراحل العلاّمة محمد مهدي شمس الدين، بأن للدول ضروراتها وللشعوب خياراتها، فإننا اليوم، يا مولانا، أمام أخزى من الضرورة وأشنع من العار، والمطلوب هو أن تنوّع الشعوب خياراتها، لأن قبول الانزلاق إلى هاوية العار، يعني الفناء التام، ونحن ننتمي إلى أمة أبت إلا أن تتبعثر ولكن فعل مقاومتها باقِ وإن جاوز المطبّعون المدى.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا