وقفت سهى على الشباك ونادت بصوت مرتفع: «أم نبيل، يا أم نبيل... يا حجة!». فتحت أم نبيل الباب ووقفت تجيب الصوت تحت شباك سهى: «آآآآه. مين؟ في حدا؟ مين عم بينادي؟». ردت سهى متحمسة: «أنا يا حجة، هون فوق، ما بدك تطلعي نسهر سوا متل مبارح؟ يلا اطلعي. ناطرينك».كانت جدتي أم علي في غرفتنا «غرفة البنات»، تخبرنا عمّا حدث معها في عزاء إحدى النساء اللواتي كنّ من سكان مخيم تل الزعتر مثلها، وتحاول أن تسترجع ذكريات كثيرة تشاركتها مع من حضر العزاء. هكذا أخذت تستذكر أسماء عديدة أمام أمي التي كانت إما تبتسم وتزيد على الاسم تفاصيل طريفة من صفات بعض الأشخاص ومواقف معينة مرّوا بها فنضحك جميعاً، أو تصمت وتميل بنظرها بعيداً عنا، من دون كلمة واحدة، فنفهم أن في داخلها مشهداً مؤلماً كانت حاضرة وقت حدوثه، أو ربما ورثت ذكراه عن أحد الأقارب، فلا نعلّق أبداً؛ لأننا نعلم جيداً، منذ صغرنا، ما عانته أمي وأهلها حتى خروجهم من المخيم.

وفي النهاية، ختمت أم علي كلامها هكذا: «هاد كله كان أيام السبعينات، قبل تدمير المخيم ومحيه عن وجه بيروت».
لحظتها سمعت سهى تنادي، فعلّقت: «يلا، ها، بلشت الحفلة إسا! إن شاء الله نعرف ننام هالليلة، مبارح ما هديلنا بال، كل الوقت زيطة وغُنى، ياما راسي صار زي الطبل!». فضحكتُ لما قالته جدتي بعفوية، وسألت أمي: «ليش شو في؟ حفلة شو اللي عم تحكي عنها ستي؟».
فأجابت: «هاظول عيلة جديدة ع المخيم، أجوا من سوريا من شي شهر تقريباً، واستأجروا عند أم نبيل ورانا هون. بيظلهم كل الوقت يغنوا، أشي غريب فعلاً، ساعة مواويل لأبو عرب، وساعة شعر لمحمود درويش. أحياناً بفيقوا من الصبح، بتسمعي حدا عم يعزف على العود ويشهق». قاطعتها مستغربة: «بيعزف؟ وليش بيشهق؟ يعني قصدك بيقعد يبكي؟ مين هوي؟ الزلمة الكبير، جوزها يعني، ولا ابنها؟».
عائلة تعاني
التهجير، لكنها تبتهج من أبسط الأشياء

قالت لي: «لا، الزلمة يمّا، صوته حلو أحياناً منقعد نتسمع على مواويله». فأضافت أم علي التي لا تستطيع أن تجلس بهدوء من دون المشاركة في الحديث: «إسا فيكي تقولي صوتو حلو، بس يا ستي يعني الواحد إذا بدو ينام ما بتحمل حدا يحكي فوق راسه حتى لو كانت فيروز»!
التفتت أمي إلى جدتي وهي تضحك بشدة، وقالت لها: «أمي إسا انزعجتي منهم؟ وليش ما تظايقتي من جارك اللي بظل حاطط هاني شاكر كل الوقت وكأنه بكون أبوه؟ والله لو كان هاني شاكر أبوه ما كان قرفنا فيه هالقد! ولا لإنو ما بتقدري عليه؟ بتعرفيه بلا أخلاق ببلش يخانق وبعملك مشاكل؟ اتركيهم يعملوا اللي بدهم ياه، بكفيش بيتهم تدمر وربنا أعلم شو صاير معهم لوصلوا لهون». حاولت جدتي أن تبرّر كلامها فقالت: «يا أمي شو حكينا يعني؟ ما غلطت، حرام، معك حق، لساتنا بعدنا كنا عم نحكي عن الظلم اللي عشناه وكيف شلحونا بيوتنا بالـ 76».
هزّت أمي رأسها إيجاباً تصديقاً على كلام جدتي، ثم أضافت: «اه، وأكتر شي بظل يعيد هاد المقطع: سجّل، برأس الصفحةِ الأولى، أنا لا أكره الناس، ولا أسطو على أحدٍ، ولكني إذا ما جعتُ، آكل لحم مغتصبي، حذار حذار، من جوعي، ومن غضبي. أنا ما كنت متذكرة إنو لمحمود درويش لحد ما سألت أختك قامت دورت عالنت لتأكدنا إنها إلو. وبس يغني بقولها على ملات صوته كإنه عم يلقيها بشي حفلة! وساعة كمان بيقلّد مارسيل خليفة هوي وعم يغني: في كفي قبضةُ زيتونٍ وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا وأنا وأنا أمشي. عشان هيك ستك بتجن أحياناً، بتلاقيه بصرخ وبرجع بيهدا، بينفعل كتير وبعدين ولا أكنو صار إشي»!
أسرعت أم علي عندما رأت أمي تمسح نظارتها، لتأخذ إدارة الحديث عنها وقالت: «الغريب إنو سمعت إنو أحوالهم مش منيحة، يعني أقل حتى من كتير عائلات موجودة بالمخيم، وعندهم كتير مشاكل، يا ويلي عليهم، يعني حسب ما عرفت إنو ابنهم مريض والزلمة قاعد بلا شغل. بس رغم هيك بتلاقيهم كل الوقت اللي بيزقف واللي بيغني واللي بزلغط وأصواتهم بتضلها طالعة كإنوا كل يوم في حفلة. حتى أم نبيل، تخايلي يا ستي، بتطلع بتشارك بالحفلة. ههه، بتزقف معهم وشو بعرفني كمان إذا بطلع منها أشعار كانت حافظيتهم من أيام فلسطين».
تذكرت لحظتها المسلسل السوري «عيلة 7 نجوم» الذي لطالما شاهدناه منذ أكثر من عشر سنين، عن عائلة تعيش في أحد الأحياء الفقيرة، حيث هناك لا عمل ولا مال ولا طعام أحياناً، عائلة تعاني من كل شيء، إلا من وجود دافع في داخلهم، يقودهم للقيام بمحاولات كثيرة لتحسين وضعم. والبهجة التي تسكنهم على أبسط الأشياء، كسهرة في الدار، يعزف فيها «أيمن رضا» بدور «بديع» على العود، ويصفق الجميع وتتمايل شكران مرتجى بدور «غادة»، بينما لكل واحد أن يغني مقطعاً مهما كان الصوت جميلاً أو شنيعاً!
يا الله... ما أجملنا!




بعض مخيمات لبنان، كمخيم مار الياس مثلاً، ارتفعت فيه الأبنية إلى أكثر من أربع أو خمس طبقات، فلم تعد هناك مشكلة في التواصل الحي والمباشر مع الجيران، مع أنه نوع من التواصل مشكور أحياناً، حيث يكون القرب الى هذه الدرجة نوعاً من التواصل الذي تفتقده العمارات السكنية.لكن الأبنية التي ترتفع داخل المخيمات مخالفة للقانون اللبناني الذي يمنع البناء في المخيمات منذ زمن طويل. هكذا، فتح باب آخر على اللاجئين الذين بدأت بعض المحاكم اللبنانية تستدعيهم لما في الأمر من مخالفة. ومن غير المتوقع أن تجد هذه المشكلة
حلاً سريعاً.