الخرطوم | بدا المشهد السياسي في السودان في حالة من الارتباك والتشويش، خاصة بعد اعتقال السلطات الأمنية أول من أمس زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي، وحبسه داخل سجن كوبر في الخرطوم بحري. وكأول ردّ فعل، أعلن الحزب التاريخي انسلاخه من الحوار الوطني الذي يتبنّاه الرئيس عمر البشير، وهو إذ يفعل ذلك يكون قد دق أول مسمار في نعش الحوار الوطني الشامل.
غير أن المهدي، ومن داخل سجن كوبر الذي اقتيد إليه مساء السبت، بعث بخطاب لأنصاره، تلقّت «الأخبار» نسخة منه، دعاهم فيه إلى تجنّب العنف وضبط النفس وعدم التعامل مع موقف اعتقاله بردود الفعل. وأكد المهدي أن أفضل وسيلة لحل الازمة السياسية هي الحوار عبر المائدة المستديرة أو المؤتمر القومي الدستوري، مستدلاً بتجربة الكوديسا في جنوب أفريقيا. وناشد المهدي القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني المطالبة بالحريات العامة والقيام بكافة وسائل التعبير المدني لدعم موقفه، مؤكداً أن لا تراجع عن مواقف الشعب. وقال المهدي إن حرص حزبه على الحوار جعل من الكثيرين يظنون أننا بعنا قضيتنا. وأضاف «ما أتعرض له الآن من عدوان برّأ موقفنا من أي شبهة، لنصبح محطّ إجماع سياسي وشعبي».
وفي أول ردّ فعل للحزب الحاكم على اعتقال الصادق المهدي، قال القيادي في المؤتمر الوطني مصطفى عثمان إنه أمر مؤسف.
ويسود اعتقاد واسع أن هناك جناحاً داخل المؤتمر الوطني يعمل على عرقلة الحوار الوطني، هو من خطّط ودبّر لأمر اعتقال الصادق المهدي بمعاونة مباشرة من أجهزة الأمن التي نفذت الأمر. ويعيش الحزب الحاكم الذي يتعافى رئيسه عمر البشير من آثار عملية جراحية، حالة من الارتباك وتقاطع المصالح بين منتسبيه، ربما تؤدي إلى إضعاف الحزب وتفكيكه.
ويبدو أن تداعيات اعتقال المهدي أكبر من مسألة نسف الحوار الوطني، حيث تم استدعاء جميع القوات النظامية من جيش وشرطة وأمن في ولاية الخرطوم ووضعها في حالة استعداد بنسبة 100% تحسباً لأي طارئ.

هناك جناح
داخل المؤتمر الوطني يعمل على عرقلة
الحوار الوطني

وفي خطوة متوقعة، أعلنت قوى الإجماع الوطني تضامنها مع موقف حزب الأمة القومي بإيقاف الحوار مع النظام والمطالبة بإطلاق سراح الصادق المهدي. وقال القيادي في حزب البعث محمد ضياء الدين للصحافيين إن «النظام ضيّع فرصة تاريخية بعد إجهاض الحوار»، مؤكداً أن «فرصة توحّد القوى المعارضة أصبحت مؤاتية لإزالة النظام الدكتاتوري». ودعا «الجماهير إلى التعبئة لتحقيق الحرية وإيقاف الحرب وتحقيق العدالة الاجتماعية».
ويبدو أن العراقيل التي ظلت تعيق تقدم الحوار الوطني السوداني، الذي أطلق دعوته الرئيس البشير مطلع العام الحالي، لا تتوقف أسبابها على الأحزاب المقاطعة للمشاركة، بل تتخطاها إلى الحكومة التي وجدت نفسها في مواجهة «عاصفة الفساد». وتفجّرت في وجه الحزب أزمة جديدة هي الأعنف والأشد أثراً من كل الأزمات، حيث تسرّبت ملفات الفساد إلى الرأي العام بصورة مكثفة خلال الشهر المنصرم، ونشطت جهات معينة في تمليك الرأي العام وثائق تثبت تورط قيادات كبيرة في الحزب والحكومة في قضايا فساد، الأمر الذي أربك قادة الحزب والحكومة، وهزّ أركان الحكم في السودان. ويرجح مراقبون أن ظاهرة الكشف عن تورط قيادات بارزه في الحزب في قضايا فساد، لا تخلو من كونها تصفية حسابات شخصية بين تلك القيادات الحزبية التي ما زالت في السلطة وتلك التي أزيحت عنها.
لكن بدا ثمة تفاؤل في أوساط المواطنين بأن أجل النظام قد دنا وأن تخاصم إخوان الأمس أعداء اليوم ما هو إلا دليل على قرب زوال النظام.
ويقول محمد ط.، وهو موظف حكومي في العقد الخامس، إن «الفساد استشرى في كل مفاصل الدولة. كل المسؤولين فاسدون، ونحن الشعب المغلوب على أمره لا نجد ما نقتات به».
وإزاء هذه الأزمة المفاجئة التي لم تكن في حسبان قادة المؤتمر الوطني، تراجعت قضية «الحوار الوطني» وقل الاهتمام بها، ليكون الهم الأول للحزب هو الدفاع عن سمعته وسمعة قادته في مواجهة اتهامات الفساد المتزايدة يوماً بعد آخر.
وكان لقرارات الحكومة الأخيرة بإطلاق الحريات الصحافية وحريات التعبير، في سعيها لإقناع الأحزاب بالمشاركة في الحوار، دور واضح في نشر أخبار وقضايا الفساد عبر الصحف. لكن الكاتب الصحافي خالد التجاني يرى أن خروج قضايا الفساد إلى العلن «لم يتم بصورة طبيعية»، أي لم يكن عن طريق التغطيات الصحافية مثلاً لإجراءات قضائية أمام المحاكم، بل تم أغلبها عن طريق تسريب وثائق ومعلومات وإفادات من داخل مؤسسات الحكومة نفسها. وعدّ التجاني ذلك أنه «يحمل نذراً خطيرة تشير إلى مدى انفلات الأمور داخل مؤسسات الحكم. في ظل هذه الأجواء، استمات قادة المؤتمر الوطني في دفع تهم الفساد عن حزبهم ومنتسبيه، محمّلين الصحافة مسؤولية ذلك ومعتبرين أنها تخدم أجندة محددة بنشرها وثائق الفساد.ويسود اعتقاد واسع بأنه ما لم تحسم الحكومة الجدل المثار حول قضايا فساد المسؤولين الكبار، وذلك بتقديمهم إلى العدالة، بغض النظر عن مناصبهم، وترك القانون يأخذ مجراه، وردّ الحقوق والأموال العامة إلى خزينة الدولة، فإن أي حديث عن حوار أو وفاق وطني بين الحكومة وأحزاب المعارضة يبقى حديثاً لا قيمة له. فانتشار قضايا الفساد يثبت عدم شفافية أجهزة الدولة وتقاعسها في محاربته، وبالتالي عدم مصداقيتها في توفير شروط الحوار التي التزمت بتوفيرها، ما يشير إلى أن قطار الحوار الذي لم يبرح محطة اختيار لجنة السبعة المعنية بإدارته في طريقه إلى التوقف النهائي.
ويتفق محللون على أن الحكومة تقف الآن في موقف لا تحسد عليه؛ فقبل التزامها بمتطلبات الحوار الوطني الذي طرحته بنفسها، مطلوب منها الآن، وبشكل عاجل، وضع حدّ لقضايا الفساد التي بدأت تظهر إلى العلن بصورة متزايدة في كل يوم، وذلك بانتهاج الشفافية الكاملة في التعامل مع هذه القضية، حتى لا تفقد تلك الأحزاب التي قبلت بالجلوس للحوار معها.
إلى ذلك، بعث جهاز الأمن منشوراً لـ«الأخبار» يفيد بأن مدير جهاز الأمن الحالي أصدر توجيهات بإحاطة العاصمة الخرطوم بثلاثة ألوية من قوات الدعم السريع. والخطوة تأتي تحسباً من دخول أنصار المهدي من أقاليم دارفور إلى الخرطوم. ويذكر أن تصريحات المهدي حول هذا الجهاز هي التي تسبّبت في اعتقاله.