السؤال الأول: «ماذا يمكنك أن تفعل بكمية كبيرة من الزيت الصناعي (السيرج) الناتجة من قلي آلاف حبات الفلافل، الوجبة الصباحية المفضلة لسكان المخيم؟»، يجيب المهندس في مقابلته الافتراضية بسؤال: «ما علاقة زيت القلي والفلافل بالهندسة؟».تأتي الإجابة من رائحة الزيت الخانقة المنطلقة من عوادم السيارات في الشوارع. دخانٌ أبيض كثيف يقال إنه شديد السميّة تخلّفه سيارات الأجرة التي تتوقف كثيراً عن العمل لفقدان الوقود اللازم.

هذا هو الحل الذي اخترعه السائقون الغزيّون في هندسة الحصار ليشغّلوا سياراتهم، رغم مخاطره الصحية، لكن لا بديل أمامهم. فهم يقفون في الطوابير حتى الفجر بانتظار الوقود الإسرائيلي عند محطات التعبئة. وحينما تصل شاحنات الوقود لا يسمح لهم «الشرطي الحمساوي» بتعبئة «التنك» كاملاً حتى تكفي الكمية جميع المحاصرين.
حتى عندما تعمل السيارة على الوقود وتتوقف في منتصف الطريق، لا غرابة أن ينزل السائق إلى محل قريب ليشتري ليتر «سيرج» جديدة. سيكفيه الزيت اللامع رحلة العودة إلى طابور المحطة والسهر ليلة أخرى، وحبّذا لو خلطه بقليل من الوقود ليطيل عمر المحرك. «ماذا يحل بالسيارة بعد تشغيلها بزيت القلي!»؟ نعود إلى السؤال عن هندسة الواقع لا الحصار. أكثر ما يكرهه طارح السؤال الإجابة بسؤال مقابل! «ماذا لو كانت السيارة تعمل بالبنزين لا بالسولار (وقود أثقل من البنزين)، هل ينفع استخدام زيت القلي معها؟».
ينطلق الخيال مجدداً للبحث عن إجابة. لا داعي لتتعب عقلك في ما سبقك فيه آخرون. انظر أيضاً إلى مؤخرات السيارات. لا يذهب تفكيرك بعيداً. ارفع نظرك قليلاً. ركّز على «كبّود (صندوق) السيارة». ستراه يتأرجح لأنه ليس مغلقاً بإحكام. كيف يستطيع أصحاب السيارات الحديثة إغلاقه جيداً وهم يضعون تحته جرة غاز؟ خطر آخر تنقله هذه السيارات. فهي مفخخة فعلاً، لكن بطريقة اضطرارية. كما لا تزال الشرطة توقف السيارات المماثلة للتأكد من خلوّها من الغاز. لكن حينما يشتد الحصار توقف حملاتها حتى يتحرك الناس بحرية. استخدام زيت القلي لم يخلق أزمة كبيرة لأن السائقين لا يستخدمون زيتاً جديداً. فسعر الليتر يساوي سعر الوقود. وتعقد صفقات شراء الزيت مع أصحاب المطاعم ليلاً، لأخذ الزيت «المكرر» بأرخص الأسعار. أما الغاز فاستخدامه خلق أزمة كبيرة في البيوت. وكان السؤال الأهم: هل نستخدم الغاز لجلب الرزق أم لطبخه؟

استخدام الغاز
لجلب الرزق أم طبخه؟

نعود إلى الهندسة مجدداً. «أمام السيارة التي فقدت البنزين شارع يوصل إلى تلّ، نسميه سندة أو طلعة، كيف يمكن صعودها؟». يشعر المهندس المفترض بالإحراج، فلا شيء يمكن للمنطق أن يجيب عن حالة اللامعقول التي يعيشها هؤلاء. ألا يخافون من بدائلهم والسرطان عندهم كالريح تذرو هشيم الحياة؟
يشرح سائق: «لا شيء صعب، تُغلق أنبوبة الغاز. تُحول السيارة إلى البنزين. تضع الغيار على الرابع وتصعد. تصل الى آخر الطلعة فتغلق شبر البنزين وتعيد فتح الغاز وتكمل السير». يرد صديقنا: «هذا جنون! فاختلاط الغاز والبنزين كفيل بإحداث مصيبة». لا يجد السائق جواباً لتبرير الجنون سوى ضحكة عالية دوّت بين «زمامير السيارات». لا جنون في رأيهم أكثر من وجودهم تحت الاحتلال والحصار والتنظيمات سنوات متتالية. قبل انسحاب المهندس المفترض من اللقاء مع السائقين، طلبوا منه الإجابة عن سؤال أخير: «كيف يمكنك الوصول الى عملك ما دمت خائفاً من انفجار الغاز والتسمم من رائحة الزيت الثقيلة؟». منحوه فرصة الإجابة في اليوم التالي. صباحاً، كان عليه الوصول باكراً في يومه الأول في عمله الجديد. كل ما فعله بعد ساعة من الانتظار ركوب صندوق سيارة الشرطة، التي يعرض عليك عناصرها «توصيلة» الى أقرب نقطة ممكنة من وجهتك. بالطبع، لن تكون وحدك. ففي الصندوق معتقلون جنائيون مطئطئو الرؤوس. فهي السيارة الوحيدة التي تعمل على السولار الحقيقي، وفي خدمة الشعب أيضاً!
نظر إلى بزّته الرسمية وإلى المعتقلين حوله. «كيف جمعت الأيام بيننا في الصندوق نفسه؟ ... إنها لعنة الحصار لا هندسته!».