مع اقتراب المونديال في قطر من نهايته، صار يمكن تسجيل ظواهر كثيرة مثيرة شهدتها مدرّجات الملاعب، وإنْ كان لِما جرى في الكواليس أيضاً نصيب. فالروح العربية التي انبعثت من تلك المدرّجات، سواء على شكل تضامن مع فلسطين أو المنتخَبات العربية المشاركة، ما كان ممكناً أن تَظهر بهذا الشكل لولا أن الحدث مُقام في دولة عربية، على رغم أن تلك الروح ستذوي بَعده، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. كذلك، فإن مشاهد ارتداء مُشجّعي الكثير من المنتخَبات، الغربية خصوصاً، الغترة والعقال بألوان أعلام بلدانهم، تشي بسخرية من العرب «المتأخّرين» عن ركْب الحضارة، خاصة أنها ترافقت مع حملة أوروبية لـ«التشويش» على تلك الاستضافة، على رغم انبهار كثيرين بحُسن التنظيم، المعزَّز بإنفاق هائل لا يمكن لغير الدوحة أن تُوفّره
أنجزت قطر الكثير من خلال تنظيم المونديال، حتى لو بالكلفة العالية التي بلغت 220 مليار دولار. فحجم البذخ بالنسبة إلى حكّام الدولة، لا يهمّ لقاء المردود السياسي والمعنوي المُحقَّق، طالما يمكن تعويضه بمبيعات النفط والغاز بالأسعار المرتفعة. لقد جاء العالم إلى هذه الدولة ودُهش لِما شاهده من حُسن تنظيم، لكن ظواهر كثيرة كان لها معنى في السياسة والثقافة، أبرزها تفاعل الجمهور العربي مع الحدث الذي ما كان ليحصل بالشكل الذي حصل به، لولا أنه يجري للمرّة الأولى على أرض عربية، على رغم أن ذلك التفاعل عبّر فقط عن قسم من العرب، هو عرب الخليج ومَن يقيم في بُلدانهم من جاليات عربية هي في حُكمهم، نتيجة الرفاه الذي تعيشه في تلك الدول. فلَم نتعرّف مثلاً إلى ردّ فعل الجمهور الذي يمثّل السواد الأعظم من العرب، أي فقراءَهم، على الحضور الإسرائيلي، والذي كان ليكون أعنف بكثير ممّا شهدناه من زجر وطرد جعلا إسرائيل ترى بأمّ العين أن التطبيع مع الأنظمة لن يؤدّي أبداً إلى تقبّل الشعوب لكيانها المحتلّ، ولكان كثر ربّما استفادوا من الجائزة التي رصدها «اتّحاد قبائل الجزيرة العربية» وقدْرها 80 ألف دولار لكلّ مَن يقتل إسرائيلياً في المونديال.
ولكن الحُكم في قطر، الذي خَبِر بنفسه الاستفادة من التعاطف الجماهيري مع قضية فلسطين في مناسبات كثيرة، وإلى حدّ أقلّ من المسألة القومية العربية، يعرف أن المشاعر التي ظهرت على المدرّجات ستذوي بمجرّد أن ينتهي الحدث، وإلّا لَما كان سيُقدم على إقامة خطّ جوّي مباشر للمشجّعين الإسرائيليين، ولو بحجّة أن المقاطعة لا تستقيم مع استضافة المونديال، وهو ما يُعدّ نوعاً من التضليل، بدليل استبعاد روسيا لأنها دخلت في حرب مع أوكرانيا. فالأنظمة الخليجية المطبّعة كلّها مطمئنّة إلى أن شيئاً لن يجبرها على تغيير المسار، بسبب شبكة المصالح التي تربط من خلالها مواطنيها بها، والخوف من الاضطهاد الذي يعيشه هؤلاء. ولذا، لن تتحوّل الموجة ضدّ التطبيع إلى ضغط على الأنظمة التي لا تزال تُراهن على الزمن لتغيير مزاج شعوبها، مثلما بيّن عادل الجبير، قبل أيام، حين اعترف بأن الاعتراض الشعبي السعودي على التطبيع ما زال مرتفعاً جدّاً، وأن تغييره بحاجة إلى وقت. أمّا «الظاهرة المغربية» التي ذهبت أبعد هذه المرّة، فلا يُراد لها، هي الأخرى، أن تتجاوز حدود المشهدية التي تشكّلت في الملاعب. فالملك محمد السادس، وَرِث التطبيع مع إسرائيل عن والده. وربّما لذلك، حاول المدرّب وليد الركراكي الحدّ من تلك المشاعر، إذ نُسب إليه القول إن المغرب ينتمي إلى أفريقيا أوّلاً.
لن يكون مفاجئاً استئناف المشاحنات العلنية بين دول الخليج بعد المونديال


والتطبيع وعكسه، هما مظهر واحد فقط من المظاهر المتناقضة التي اعتادت الدوحة الجمع بينها في سياساتها، التي تسعى من خلالها إلى ممارسة تأثير سياسي ما خارج الحدود. وأحدها ذلك التناقض بين مجتمع خليجي مغلَق بسبب طبيعته المحافظة وثقافته الإسلامية، وبين ليبرالية يتطلّبها توسيع الدور لتحويل قطر إلى مركز تجاري عالمي على غِرار الإمارات. وهي سياسة متّبعة في الدولة منذ عام 1995، حين تولّى الحكم الأمير الوالد، حمد بن خليفة آل ثاني، الذي أعاد للمناسبة تكثيف ظهوره، بما يؤكّد أنه لا يزال يمثّل الخيمة التي تظلّل حُكم نجله تميم. وهذا يحيل على «الحسد» الخليجي لقطر أيضاً، والذي ظلّ يعتمل في الصدور على رغم مظاهر الاحتفاء التي عبّر عنها الكثير من قادة الخليج. وكان رئيس الإمارات، محمد بن زايد، هو الأكثر حضوراً في غيابه عن افتتاح المونديال الذي شارك فيه عدد كبير من القادة العرب، ولا سيما أن ذلك الغياب حفّز كلّ أنواع التكهّنات بشأن بعض حفلات «التشويش» التي نُظّمت باسم جمعيات استفاقت مرّة أخرى إلى إثارة حقوق العمال الذين بنوا الملاعب وتوابعها (وهي حقوقٌ ثابت انتهاكها، أقلّه إلى ما قبل السنتَين الأخيرتَين من التحضير لاستضافة المونديال)، أو جمعيات حقوق المثليين، والتي قيل إن الإمارات تقف وراءها. وفي السياق عينه، جاءت معايرة الدوحة بالتطبيع من قِبَل البحرين التي قارنت بين إقامة خطّ جوّي لإسرائيل إلى الدوحة، وبين منْع «طيران الخليج» من الهبوط فيها. فعلى رغم مصالحة العلا، ما زالت الإمارات وقطر بلا سفراء، وزيارة ابن زايد المتأخّرة للدوحة وُضعت على وسائل التواصل ضمن إطار «ذرّ الرماد في العيون». وحتى حضور وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، وقيامه هو وتميم بوضع علم بلد الآخر على رقبته، بَدَوا أيضاً مصطنعَين، وفرضتْهما مشاركة المملكة في المونديال، كما اللياقات البروتوكولية.
وعليه، لن يكون مفاجئاً استئناف المشاحنات العلنية بين دول الخليج بعد المونديال، خاصة أن الخلافات لم تُحلّ، وإنّما جرى القفز عنها لانشغال كلّ من أطرافها بشؤونه، المتعلّقة بترتيبات الحُكم في السعودية والإمارات، وبإنجاح المونديال بالنسبة إلى قطر، لا بل قد يكون نجاح الأخيرة بذاته محفّزاً لعودة الصراعات، حيث تَعزّز دورها أكثر، وازداد في المقابل الحسد. وتَعتبر الإمارات سماح قطر بانتشار مظاهر رفض التطبيع ورفْع العلم الفلسطيني في المدرّجات استهدافاً لها، خاصة أن الثانية تحظى بنوع من التعاطف الفلسطيني سببه المساعدات إلى غزة والعلاقة مع حركة «حماس»، فيما الأولى تُظهر حماساً شديداً للتطبيع يتعارض بشكل صارخ مع الرغبة المكبوتة للشعب الإماراتي. والأمر نفسه ينطبق على اتّهام الإعلام الإماراتي لجماعة «الإخوان المسلمين» التي تقيم علاقة جيّدة بالدوحة، باستغلال الحدث للقيام بحملات ترويجية، حيث أشارت خاصة إلى ظهور الناشطة اليمنية، توكل كرمان، «راقصة» في المدرّجات، بينما شعبها يموت من الجوع. وحتى إذا كان التلاقي بين تميم وابن سلمان مصطنَعاً، إلّا أنه استفزّ مع ذلك الإمارات التي أفلتت ذبابها لتخريبه، مستخدمةً أسماء مستعارة لقبائل وعائلات من الدولتَين. أيضاً، جرى تسليط الضوء على أن المنتخَب القطري غالبيته من المجنّسين، إذ يسأل «أحد المشجّعين القطريين» على «تويتر»: «وين عيالنا؟ ما في إلّا سعد الدوسري والهيدوس؟ وين قبايل قطر، الكواري والنعيمي والهاجري والمرّي والعنزي والشمري والمهنّدي وإلخ».
أمّا في الكواليس، فلم يكن اللعب نظيفاً دائماً، كما يفرض شعار «الفيفا». وجاء القبض على اليونانية إيفا كايلي، وهي واحدة من 14 نائباً لرئيس البرلمان الأوروبي، مع أربعة أشخاص آخرين بتهمة الحصول على مبالغ مالية من قطر مقابل الترويج لها داخل أورقة البرلمان، ليُحدث هزّة في تلك المؤسّسة، ويعيد مرّة أخرى طرْح أحقّية الدوحة في الاستضافة، والتي كانت موضع جدل كبير حين مُنح التنظيم لها في تصويت «الفيفا» عام 2010.