لم يحسب محمد الديب، الشاب العشريني، أن نهاية اعتصامه في «رابعة العدوية» ستكون الموت الحتمي، سواء بالضرب المباشر أو الحرق الجماعي. اليوم يمر 366 يوماً من الوجع والألم. أمس وفي ذكرى فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة»، تعود المرارة، ويمر شريط الذكريات مجدداً على الآلاف من الأسر. تكاد الدموع لا تجف من وجع الفراق، في أزمة قطعت بين مرحلة وأخرى وشطرت المجتمع المصري.
محمد الديب، ذو الخلفية «الإخوانية»، الذي استقال من جماعة الإخوان المسلمين قبل تولي الرئيس محمد مرسي الحكم بشهور معدودة، حرص على توثيق جميع الأحداث. فكونه يعمل مخرجاً، دفع به منذ اللحظات الأولى لخروج المصريين عام 2011 إلى التوثيق، ولقّبه رفاقه بـ«الشهم». «فكرة»، هو اسم الفريق الفني الذي شكله محمد مع مجموعة من رفاقه في عام 2009، «فن هادف يشبه مجتمعنا بلا إسفاف ولا إفراط»، هو الشعار الذي ظهر في أفلامه الوثائقية الدرامية التي بلغ عددها 25.
«بحلم أكون صاحب شركة انتاج قبل ما أتم 40 سنة»، حلم محمد الذي لم يمهله القدر تحقيقه بعدما لقي مصرعه مع من اختنقوا داخل عربة الترحيلات، بعد احتجاز 6 ساعات داخلها في فصل الصيف، أثناء نقلهم الى سجن أبو زعبل، مختنقين بالغاز، عن عمر لم يتجاوز الـ 26.
«نفسي بمصر تكون جنة، بس كل الأحداث بتأكد لي إنها مش هتكون كده بعد الدم ... اللهم احقن دماء المصريين يا رب»، كلمات دائما ما كان يتمتم بها المخرج محمد الديب، أحد مؤسسي «رابطة فناني الثورة» التي تأسست في ميدان التحرير عقب «ثورة 25 يناير». حلم آخر لم يتحقق حتى يومنا برغم الدم الذي رآه محمد بأم العين قبل أن يموت.
في منزل الشهيد محمد الديب، في محافظة البحيرة، يخيم السكون والحزن، حتى أشياؤه فقدت من روحها. الشجرة التي اعتنى بها، سريره الخشبي. حتى غرفة الوالدة التي لم يجف دمعها افتقدت خطواته لتجد اليوم ملابسه منتشرة فيها في محاولة للتعويض. هو الموت الآتي على هامش السياسة، موت لا يعيش تداعياته إلا ذووه. موت يفقد معناه وسط الانقسام بشأنه وضياع الرواية في صراع أعداء السياسة.
«غاب جسد محمد عن البيت وظلت روحه ترفرف داخلنا». كلمات تتمتم بها شقيقة محمد، خديجة، عند بدء حديثها لـ«الأخبار»، هي التي ما زالت تراسله وكأنه حي.
لم يدخل الحزن ذلك المنزل فحسب، بل هي حال الآلاف ممن دفعوا أثمان السقوط في الصراع.

الحكومة لم تهتم بمفقودي فض
«رابعة» و«النهضة»


فمن شمال القاهرة إلى جنوبها، حزن يسكن العديد من البيوت، أياً كانت التوجهات. في الجنوب منزل آخر حالته كالبقية بفارق في المشهد العام. رب المنزل محمود أحمد، من محافظة المنيا، لم تره زوجته منذ «حادثة الفض»، ولم تعرف طريقا إليه حتى الآن، وتعيش في ذكرى غيابه الأولى مفطورة القلب على فراقه. لا تجد الزوجة رداً حين يسألها الأبناء الثلاثة عن مصير والدهم. جواب لا دليل إليه وسط الدموع. «مسافر، وادعوا ربنا يرجع بالسلامة».
لم تكن تلك القصص وحدها ما أنتجته عمليات الفض، ولكنها نماذج التقتها «الأخبار» لعرضها في الذكرى الأولى لهذه الجريمة.
الحكومة أيضاً لم تلق اهتماماً بمفقودي حدث الفض ذاته، وتركت أسر المفقودين مكلومة تبحث عن مفقود يهدأ دون جدوى. حتى الجهود الشعبية التي قام بها بعض الشباب من أجل تسجيل أسماء المفقودين والجرحى والمعتقلين والموتى كل على حدى، فشلت في التوصل لتعداد كل منهم في ظل غياب شفافية وزارة الشرطة بشأن المقبوض عليهم، فضلا عن حرق الكثير من الجثث وتشوّه الوجه مما جعل مهمة التعرف عليه صعبة أو أن تكون مستحيلة.