الجزائر | اختتم الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أمس، زيارة إلى روسيا استمرّت لثلاثة أيام، تلبيةً لدعوة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إطار تعزيز التعاون بين البلدَين. وشهدت الزيارة توقيع عدد من الاتفاقات بين موسكو والجزائر، ومشاركة تبون في أعمال منتدى «سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي». وكانت الزيارة تأجّلت من نهاية العام الماضي، حيث مارس الغرب ضغوطاً على الجزائر لإلغائها، خصوصاً وأن العلاقات الجزائرية - الروسية شهدت تطوّراً كبيراً في الفترة الماضية في عزّ الضغوط الغربية على موسكو. وفي مقابل ما تشهده هذه العلاقات من تقدّم ملحوظ، عادت العلاقات الجزائرية - الفرنسية لتقف على عتبة أزمة جديدة، بعدما شهدت هدوءاً نسبياً كان سيُتوَّج بزيارة رسمية تقود تبون إلى باريس للقاء نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون. إلّا أن معطيات جديدة عصفت بنوايا التقارب وأدّت إلى تأجيل الزيارة، آخرها إصدار مرسوم رئاسي بإعادة مقطع يشار فيه إلى تاريخ فرنسا «الاستعمارية» في النشيد الجزائري.
وكانت آخر أزمة وقعت بين البلدَين في شهر شباط الماضي، ليعقبها ما وصفه متابعون بـ«القطيعة». وتَمثّل سببها المباشر في ما صار يعرف بحادثة «الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي» التي فرّت (باعتبار أنها ممنوعة من السفر وصادر حكم بالسجن ضدّها) من الجزائر عبر الحدود التونسية في ظروف غامضة، قبل أن تنجح بمساعدة القنصلية الفرنسية في تونس، في الانتقال إلى فرنسا. واتّهمت الجزائر، عبر برقية لـ«وكالة الأنباء الجزائرية» الرسمية، يومها، المخابرات الفرنسية بـ«تنفيذ خطّة لتقويض العلاقات بين الجزائر وباريس»، مشيرة إلى أنه «من المؤسف رؤية كلّ ما تمّ بناؤه بين الرئيسين تبون وماكرون لفتح صفحة جديدة بين البلدين، ينهار». كما أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية مذكّرة احتجاج إزاء ما وصفته بـ«عملية تهريب غير شرعية لمواطن جزائري، وانتهاك للسيادة الوطنية من قِبل موظفين ديبلوماسيين وقنصليين وأمنيين تابعين للدولة الفرنسية»، معتبرةً أن ذلك «يلحق ضرراً كبيراً بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، باعتباره أمراً غير مقبول».
ولم يمضِ شهر ونصف شهر على تلك الواقعة، حتى طوى ماكرون وتبون، في آذار الماضي، الصفحة، وأعلنا رغبتهما في مواصلة «تعزيز التعاون الثنائي». وأكد الرئيسان، في اتصال هاتفي حينها، عزمهما على تعزيز قنوات الاتصال لمنع تكرار هكذا أحداث، ولتتبع ذلك عودة السفير الجزائري لدى باريس. لكن هذا «الودّ» لم يدُم طويلاً، إذ عاد التوتر بين البلدَين من جديد، هذه المرّة بفعل اتهام الجزائر، من خلال وسائل إعلامية (مقرّبة من السلطة)، المخابرات الفرنسية بـ«المشاركة في اجتماع أمني مصغر مع المخابرات الإسرائيلية والمغربية»، بهدف «إثارة قلاقل وتوترات داخلية في الجزائر، وتحديداً في أربع ولايات هي العاصمة ووهران غربي البلاد وبجاية وتيزي وزو (منطقة القبائل)».
وممّا زاد الطين بلّة، تلويح فرنسا، بدفع من كتلة نواب محسوبين على اليمين المتطرف، بإعادة النظر في المعاهدة المبرمة مع الجزائر في عام 1968 بشأن قضايا الهجرة، والتي يمنح بموجبها الجزائريون «امتيازات في الإقامة والتأشيرة». وعجّل هذا التلويح بتنظيم اجتماع الجمعة الماضي بين سفير الجزائر في فرنسا، سعيد مويسي، ورئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لاريشر، لبحث مسائل من بينها الاتفاقية المذكورة، والتي تعتبر الجزائر تعديلها من طرف واحد «تجاوزاً غير مقبول ودعوة إلى التأزيم». وتنص الاتفاقية على إخضاع الجزائريين المقيمين والعاملين في فرنسا وعائلاتهم لقانون منفصل، وهي عرفت تعديلات سابقة في سنوات: 1986، 9941 و2001، بداية بفرض فرنسا من جانب واحد شرط التأشيرة على الرعايا الجزائريين، وخفض فترة صلاحية تصاريح الإقامة إلى سنة واحدة؛ ومن ثم نقل معالجة طلبات الجزائريين للحصول على التأشيرة إلى مدينة نانت؛ وأخيراً، في بداية الألفية، إعادة وضع شروط جديدة للمّ الشمل العائلي وإقرار شهادة إقامة مؤقتة بدلاً من بطاقة الإقامة الدائمة.
أمّا العامل الثالث الذي قد يؤزم العلاقات الثنائية بشكل أكبر، فهو توقيع تبون على مرسوم رئاسي، صدر في الجريدة الرسمية في عددها الأخير، يعيد مقطعاً إلى النشيد الوطني الجزائري، يتضمّن إشارة إلى تاريخ فرنسا الاستعماري. ويرد في المقطع المحذوف: «(...) يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر». وبحسب المرسوم، فإن النشيد بمقاطعه الخمسة «يؤدّى (...) في المناسبات السياسية والعسكرية التي تستدعي ذلك، كإحياء الذكريات الرسمية التي يحضرها رئيس الجمهورية والاحتفالات والمناسبات الملائمة (...)». وبذلك، يجبّ القرار المرسوم 1986 الذي سمح بإلغاء المقطع الخامس (محل الجدل)، علماً أن هذا الأخير حُذف سنة 2007 من النشيد الوطني في الكتب المدرسية أيضاً.
زيارة مؤجلة
بناءً على تلك التوتّرات، يبدو أن زيارة تبون إلى فرنسا بناءً على دعوة نظيره ماكرون، والتي كان يُنتظر أن تشكّل مفتاح إعادة العلاقات إلى مجاريها، ستتأجل إلى أمد غير معلوم. ويعدّ هذا التأجيل الثاني من نوعه؛ فالزيارة التي كانت مبرمجة مبدئياً في شهر أيار الماضي، أرجئت لما شهدته حينها فرنسا من اضطرابات ناجمة عن احتجاجات ضدّ قانون التقاعد، فيما اتفق الرئيسان في مكالمة هاتفية على إجرائها في بداية شهر حزيران الحالي، إلا أنها عادت وأرجئت مرة أخرى «إلى غاية توفر شروط تنظيمها». والظاهر أن ملف الذاكرة، الذي يحيل إلى ماضٍ مشترك بين الجزائر وفرنسا، سيظلّ يقف عقبة في طريق العلاقات، خاصة وأن الجزائر لا تريد أن تتنازل عن مطالبة باريس بالاعتراف بجرائم فرنسا المرتكبة ضد الجزائريين إبان فترة الاحتلال 1930 – 1962، بينما لا تنوي الأخيرة أن تتخذ هكذا خطوة، فضلاً عن مسألتَي الأرشيف وكتابة التاريخ وغيرهما. ويُضاف إلى ما تَقدّم ملفّ الهجرة، وما يمثّله من إشكالية في ظلّ العدد الكبير من الجزائريين المتواجدين فوق التراب الفرنسي، فيما أيّ قرار من فرنسا بخفض التأشيرات الممنوحة للجزائريين قد يؤجّج التأزّم بين ضفّتَي المتوسط.