غزة | ليس في وسعك أن تدرك، في اللحظة الأولى التي تصل فيها إلى مستشفى «الشفاء»، أن تلك المنطقة هي معلم المدينة الأبرز، الذي تعاقبت على بنائه، منذ نهاية السبعينيات، حكومات ودول عدة، ووضعت كلّ المؤسسات الصحية الدولية أسهماً في تحديث مبانيه. يطالعك الدمار من شارع الوحدة الذي يقود إلى بوابة المستشفى المدمّر. وفي الباحة التي طالما تصدَّر مشهدها شاشات الأخبار؛ سيكون عليك أن تفرك عينيك عدّة مرات، لتتأكد أنك في مستشفى «الشفاء» فعلاً، بعدما غيّرت الدبابات والجرافات الإسرائيلية وجه المنطقة تماماً، واختفت معالم الساحة الأمامية.فالبوابة، حيث يتربّع قسم الطوارئ والاستقبال، المبنى الذي بقي طوال الحروب والمواجهات التي مرّت على القطاع، بوابة استقبال الجرحى والشهداء، وضمّ أكفأ الأطباء والممرّضين والاختصاصيين، أُغلقت بأكوام من الرمال، فيما قُصفت كل طبقات القسم بالقنابل الحارقة. وفي الجهة الشمالية، ليس حال مبنى الجراحات التخصصي، الذي فُرِغ من بنائه قبل أقلّ من 10 سنوات، وتكاتفت العشرات من المؤسسات الدولية على تجهيز أقسامه بالمعدات الطبية، أفضل حالاً من الطوارئ، إذ حُرق وقُصف بالمئات من القذائف. وإذ يتكرّر المشهد نفسه في مباني المستشفى السبعة، فإن ما حدث في قسم غسيل الكلى، يفوق كل وصف؛ هناك، التقينا حلمي السويركي، وهو متطوّع عمل لسنوات في خدمة مرضى القسم، وكان قد فقد قبل عدة أيام من الانسحاب من المستشفى، والدته التي كانت أحد النزلاء الدوريين فيه. يقول، وهو يتجوّل بين الأسرّة المحترقة وأجهزة الغسيل المدمّرة: «اليوم، وبعد ما شاهدت ما حدث في قسم الكلى، سأقول بأسف، إن نحو 500 مريض بالفشل الكلوي، سيلاقون مصير والدتي التي توفيت قبل أيام، لأنها لم تستطع الوصول إلى المستشفى، لقد دمّروا آخر أمل لهؤلاء المرضى بالنجاة، ولم يبقَ في شمال وادي غزة أيّ مكان يتعالجون فيه، بعدما خرج مستشفى نورة الكعبي في شمال القطاع عن العمل أيضاً».
انتُشل من محيط «الشفاء» نحو 300 شهيد، فيما لا تزال أعداد غير معروفة من الشهداء، أسفل المنازل المحيطة بالمستشفى


في باحة المستشفى المزدحم بالمئات من جثامين الشهداء، تنبعث رائحة الموت. القليل من الجثامين تعرّف إليها ذووها، وأكثرها لم يكن سوى بقايا هياكل عظمية. لا يدري المئات من الأهالي الذين توافدوا مع ساعات الفجر إلى المكان، ما إذا كان هؤلاء شهداء جدداً، أم أن جثامينهم انتُشلت من القبور، وغدت طعاماً للكلاب. وفقاً لتقديرات أولية نشرها جهاز الدفاع المدني، انتُشل من محيط مستشفى «الشفاء» نحو 300 شهيد، فيما لا تزال أعداد غير معروفة أسفل المنازل المحيطة بالمستشفى في الجهة الشمالية، وتحديداً في شارع أبو حصيرة، حيث دمّرت الطائرات الحربية بالأحزمة النارية، المئات من المنازل على رؤوس سكانها. تمشي في شوارع تغيّرت معالمها تماماً، فلا تجد سوى الحسرة والبؤس في وجوه الأهالي الذين عادوا لتفقّد المكان ومَن تركوا فيه من جيرانهم وذويهم، فلم يجدوا سوى الركام. أبو محمد صيام، هو واحدٌ من المكلومين. فقد الحاج السبعيني تحت طبقات المنزل الذي نزح إليه من حي التفاح، تسعة من أفراد عائلته، واستطاع، رفقة الأهالي، انتشال ثلاثة جثامين فقط. يقول لـ»الأخبار»: «كل شيء حدث في لحظة، كان الجميع نياماً عندما بدأت الأحزمة النارية، مَن لم يقتل تحت سقف منزله، قُتل أثناء محاولته الهرب، أستطيع التأكيد أنه لم يخرج أحد حياً من مئات المنازل التي تشاهدها».
مشهد الخراب في مستشفى «الشفاء» ومحيطه، وعلى رغم أنه تكرّر بنسخة كربونية في عشرات الأحياء في شمال القطاع، إلا أن وقعه على سكان قطاع غزة جميعهم كان أكثر قسوة، لأنه لا أحد من الغزيّين، في شمال القطاع أو وسطه وجنوبه، يجهل «الشفاء»، فيما أفرغت إسرائيل هناك كل ما لديها من حقد، بأبشع الصور.