غزة | كان من المفترض أن يشكّل انسحاب جيش الاحتلال من مستشفى الشفاء، وما خلّفه من مشاهد دمار صادمة، وجرائم فاقت القدرة على الوصف، محطّة مفصلية في النظرة إلى المقاومة، أو في جدواها أمام آلة الحرب القادرة على مسح مناطق بأكملها في غضون أيام معدودة، غير أن ما تركه العدو خلفه في النفوس، ليس انزياحاً إلى العويل والإذعان والاستسلام كما اشتهى، وإنما ترك شعوراً جمعياً بحتمية الثأر، ليس لدى المقاومة فحسب، بل أيضاً لدى الشارع الذي ضاق ذرعاً بظروف هذه الحرب. وشعور الانتقام الذي تتربّى عليه الأجيال الغزية الجديدة، ليست حدوده هذه المرحلة من عمر الصراع، بل لا بد أن يتحوّل إلى ثقافة تُلقّن وتُعلّم.وبعد امتصاص صدمة «الشفاء»، لملمت المقاومة صفوفها مجدّداً، وأعادت الميدان إلى سابق زخمه. وكانت الرسالة الرمزية والمعنوية الأقوى، إطلاقها طوال الأيام الأربعة الماضية، عدة رشقات صاروخية من مناطق شمال وادي غزة، في اتجاه المستوطنات التي كرّرت الجبهة الداخلية في جيش الاحتلال للمرة العاشرة، دعوتها مستوطنيها إلى استعادة نسق الحياة المعتاد فيها. وتلقّت تلك المستوطنات، وتحديداً المحاذية لشمال القطاع، من مثل «سديروت» و«نتيفوت» و«كيسوفيم» رشقات صاروخية، أعادت التذكير بصافرات الإنذار والقبة الحديدية، وأدخلت مجدّداً العدد القليل من المستوطنين الذين عادوا إليها أخيراً، إلى الملاجئ. وأمس وحده، نفّذت فصائل المقاومة خمس عمليات إطلاق صواريخ في اتجاه مستوطنات «الغلاف». وأعلنت «سرايا القدس» أنها دكّت مستوطنة «نتيفوت» برشقة صاروخية. وكذلك، أكدت أن مقاوميها الذين عادوا من خطوط القتال، أبلغوا عن تنفيذهم عدداً من المهمات القتالية، حيث تمكّنوا في مدينة خانيونس، من استهداف قوة خاصة كانت تتحصّن في أحد المنازل بقذيفة مضادة للتحصينات، وفجّروا دبابة بعبوة «برق» الصدمية. كما أسقط المقاومون طائرة مُسيّرة كانت تحلّق في سماء المنطقة الغربية لخانيونس واستطاعوا السيطرة عليها. وتمكنوا أيضاً من دكّ تجمعات جنود العدو بوابل من قذائف الهاون النظامية من عيار 60 ملم، في محيط مستشفى «الأمل» ومنطقة العرايشية في محاور التقدم غرب خانيونس. ومن جهتها، أعلنت «كتائب شهداء الأقصى» استهداف جنود الاحتلال بوابل من قذائف الهاون في خانيونس. أما «كتائب القسام» فقالت إنها استهدفت دبابة «ميركافا 4» بقذيفة من نوع «الياسين 105» شرق دير البلح وسط القطاع، وقصفت قوة راجلة شرق حي التفاح بقذائف الهاون.
وفي خلال الأيام الثلاثة الماضية، لم تخبُ وتيرة العمل الميداني، حيث أعلنت «كتائب القسام» تمكّن مقاوميها من استهداف قوة إسرائيلية كانت متحصّنة في أحد المباني بقذيفة «تي بي جي» المضادة للتحصينات، وأوقعوا أفرادها بين قتيل وجريح. وفي محور القتال ذاته، دمّر مقاومو «القسام» جرافة بقذيفة من نوع «الياسين 105». كما لم تخلُ الأيام الماضية من العمليات النوعية، إذ أعلنت «كتائب القسام» أن مقاوميها أوقعوا قوة خاصة في كمين مركّب في حي الأمل غرب خانيونس، قاموا فيه باستهداف ناقلة جند بقذيفة من نوع «الياسين 105»، وقوة راجلة كانت قريبة من الناقلة بقذيفة أخرى. وفي ما بعد، كمنوا في المكان نفسه في انتظار وصول قوة النجدة، وحينما وصلت، التحموا معها بالأسلحة الرشاشة والثقيلة، وأوقعوا جميع أفرادها بين قتيل وجريح. وواصلت المقاومة معركة الصورة، كذلك، حيث بثّت «سرايا القدس» مقاطع مصوّرة أظهرت مقاوميها وهم ينفّذون عدداً من عمليات القنص الدقيقة، ومشاهد أخرى لهم وهم يطلقون وابلاً من قذائف الهاون، في ظروف ميدانية أظهرت ارتياح المقاومين على رغم ضراوة القصف وشدة الاشتباك.
تلك التطورات جميعها، بما فيها وصول الحرب إلى مرحلة استهلاك الذات، دفعت عدداً من المحلّلين الإسرائيليين إلى التشكيك في نية رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، إنهاء الحرب، حيث قال المحلّل السياسي، عاموس هارئيل، في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» إن نتنياهو يريد حرباً أبدية «من دون أي حسابات داخلية حول كيفية جرّنا إليها، أكثر مما يرغب في تحقيق النصر الكامل الذي لا يمكن رؤيته في الأفق بأي حال من الأحوال».