غزة | في حيٍّ جنوبيّ يكاد أن يكون منسياً وقابعاً على الهامش، شهقت المقاومة شهقة النصر التموزيّ. هناك انطفأت أجساد عددٍ من المقاومين، فيما انبعثت أرواح آخرين من قلب الرماد. لم يرخِ الليل سدوله على حي الفخاري في محافظة خان يونس (جنوب القطاع) في الثالث والعشرين من تموز الماضي، فقد تجمّدت كلّ الأزمنة والأمكنة أمام سيرورة القطاع التاريخية.
ثمّة واقعٌ جديد كان يتشكّل في حي «الفخاري» وسط 72 دبابة، وأشواك صبرٍ تغرز في أيدي المقاومين وأقدامهم. بين صخورٍ عنيدة حفر صنّاع المعركة جوفها، اكتملت لوحة معركة «الفخاري». تحديداً في ليلةٍ من ليالي الحرب، خرج مقاومو كتائب القسام (حماس) في «الفخاري» من بين أرتال الدبابات، وفي التاسعة من تلك الليلة ضرب جنون المدفعية الإٍسرائيلية موعداً مع الحي لأكثر من ثماني ساعات متواصلة، ليشتدّ معه خفقان قلوب مقاومي «القسام».
«إنها الساعة الصفر. لقد حان وقت المواجهة»، وحدها هذه الكلمات كانت تطنّ في آذان تسعة قساميين توزّعوا بين ثلاث خلايا عسكرية كامنين لجنود العدو. ضاقت الجغرافيا بتسعتهم، ليجدوا أنفسهم في غرف ضيّقة لا تتعدى مساحتها (4×5 م) قبالة مساحات زراعية شاسعة توزّعت الدبابات على جهاتها، ونحو 1000 جندي إسرائيلي يضيّقون الخناق عليهم، وكأنّ لعنة الحصار تلاحقهم، ولا فكاك من المعركة إلا بالانتصار أو الموت، وخصوصاً بعدما صار مصيرهم اليُتم في المعركة، جراء اختراق العدو الاتصالات اللاسلكية بين المقاومين والإجهاز على وحدة الإسناد الخاصة بالمنطقة بصاروخ F16.
تفاصيل كثيرة عن هذه العملية النوعيّة غيّبتها الاعتبارات الأمنيّة

تفاصيل كثيرة عن هذه العملية النوعيّة غيّبتها الاعتبارات الأمنيّة، لكن «الأخبار» تمكّنت من الوصول إلى أهم من كانوا في المعركة لتقشع الغموض عنها. التقينا محمد عبد الحميد (اسم مستعار)، الشاب اليافع، في منزله، وتبادلنا الحديث معه لساعات من دون ضجر.
يسرد عبد الحميد محطات المعركة التي خاضها وحُفرت عميقاً في باطنه، قائلاً: «العدو أرادني واثنين آخرين أحياءً، لذا ظلّ جنوده يتربّصون بنا من جميع الجهات، فيما نحن محاصرون في غرفة ضيّقة نحمل رشاشات BKC وقذائف TBG وعبوات أفراد... كنا نطلقها على جنود العدو لنعطي زخماً نارياً أكبر».
آنذاك، كان عبد الحميد ورفاقه يبذلون أقصى طاقاتهم لاستدراج جنود العدوّ، وإيقاعهم في الفخاخ التي نصبوها لهم، لكن ساعات الانتظار طالت، وامتدّت من الرابعة فجراً حتى التاسعة صباحاً. يصف الشاب تلك الساعات بأنها كانت الأثقل على قلبه، فالوقت كان يسير ببطء شديد، فيما أعصابهم مشدودة نحو المجهول.
حينما دقّت الخامسة والنصف فجراً، اشتعل لهيب المواجهة بين خلية "القائد العسكري العام للمنطقة"، وجنود العدو، وخصوصاً بعدما نجح المقاومون في زرع عبوات في بعض الدبابات. في تلك اللحظات، وعلى بعد أمتار قليلة من ساحة الوغى، كان سامي، وهو شقيق عبد الحميد الأكبر، يقف مرتجفاً على سطح منزله يراقب من بعيد مصير أخيه المتأرجح بين الحياة والموت، ليشعر كأنّ شيئاً من قلبه قد تشظّى، لعجزه عن انتشال شقيقه من وحل الموت.
مع طلوع الصباح، وبعدما أثخن المقاومون الثلاثة الجنود بالجراح، انتفخ العدوّ غيظاً وقرر أن يجرفهم نحو الموت بعدما كان يشتهيهم أحياءً. يقول عبد الحميد: «فجأة، وجدنا أنفسنا قابعين بين سقف المنزل وأرضيته وأكوام الركام تغطّينا. رأيت رفيقي المقاوم يزفر زفرات الموت تحت ذلك الركام، وأنا ملقىً بجانبه عاجزٌ عن إنقاذه بجوار رفيقنا الآخر».
تراءى لعبد الحميد طيفٌ أبيض بعدما اقتحمت جرافة D9 إسرائيلية المنزل المتحصّن فيه، وجرفته ورفيقيه من الغرفة إلى المطبخ وهدمت المنزل فوق رؤوسهم. ثوانٍ معدودة نقلت ثلاثتهم إلى حياة البرزخ، لكنّ المصادفة حالت دون جرف الـD9 لهم مجدّداً، بعدما "غزّها" سيخٌ من الباطون فارتدّت أكوام الباطون إلى الخلف.
وقف عبد الحميد. وحين بدأ نبض الحياة يسري في عروقه، انتزع صديقه المقاوم "خالد" من بين الركام، فيما رفيقه الآخر "عبد الله" كان قد فارق الحياة. بأعجوبة مدهشة ظفر المقاومان بروحيهما، وصارا يركضان وسط إطلاق نار كثيف من عشرات الدبابات والجنود، إلى أن تواريا عن الأنظار داخل أشجار الصّبار التي تلفّ المكان.
بقيا حبيسَي تلك الأشجار طوال يومٍ كامل. يكمل عبد الحميد: «بدأ الجنود يبحثون عنّا. اقتلعت جرافاتهم عدّة أشجار من الصبّار، لكن الله حمانا ولم تكشفنا الدبابات المزوّدة بمجسّات تتطابق مع درجة حرارة الإنسان وتكشف أيّ جسم على بعد 15 متراً منها. بحمد الله كنّا على مسافة أقل من تلك الأمتار».
وإذ بدت علامات الإعياء على صديقه المصاب "خالد" جرّاء هبوط ضغطه، سارع عبد الحميد إلى تقشير ضلوع الصبار، وعصر المياه المخزونة بداخلها على شفتي صديقه حتى تُردّ الروح إليه. ويتابع الحديث: «مع حلول الليل أيقظني خالد من النوم لنفكر في الخروج من بين الصبّار، وسط حصار خانق مفروض علينا».
ركض المقاومان مئات الأمتار، وهما يصارعان الموت كل ثانية، إلى أن وصلا المستشفى الأوروبي في خان يونس، وهناك تلقّيا العلاج اللازم. "زينب عبد الحميد"، التي لم تصدق عودة ابنها حيّاً تقول لـ"الأخبار" بلهجتها المحكيّة البسيطة: «كنت أتمنى الشهادة لا الاعتقال لابني حبيبي، ودايماً أقوله اخلص النيّة يمّا لتاخدني عالجنّة عندك. نذرت حياتي وأولادي للمقاومة، حتى البيت اللي كان متحصّن فيه ابني كان ملكي وأهديته للمقاومة بكلّ حب».
الشاب (21 عاماً) الذي التحق بصفوف القسام منذ سنوات وخضع لدورات مكثّفة في التدريب والإعداد، وتنقّل بين وحدات الإسناد والمدفعية والمضاد للدروع والقنص وزرع العبوات، لم يشح بوجهه عن أرض المعركة رغم التعب.
بعد يومين من ذلك الحصار، عاد ليكمل المشوار الذي قطعه، واشتبك من "مسافة صفر" مع جنود احتلّوا مسجد «الرضا» في الحي، وكبّدهم ورفاقه خسائر فادحة في الأرواح، لكن العدو اعترف بمقتل ثلاثة من جنوده في تلك المعركة.
بهذه الهمة، والصورة المقاومة، أعاد مقاومو غزة رسم شعاع النصر الذي مرّ في بنت جبيل في جنوب لبنان، كأنه من بين التلال التي تطلّ عليها بنت جبيل، والتلّة الوحيدة الصغيرة في «الفخاري» يصدح صوت الجنوب قائلاً: «عاب مجدك بالمذلة والهزائم، حينما هبّ الجنوب كي يقاوم»!
لمشاهدة رواية سكان المنطقة يمكن متابعة الرابطين الآتيين: