تشهد الساحة السياسية في العراق، هذه الأيام، مخاض ولادة خريطة جديدة من التحالفات، استعداداً لانتخابات المحافظات في ٢٠ نيسان الجاري، والتي تعتبر اختباراً للقوى السياسية تمهيداً للانتخابات البرلمانية المقررة في منتصف العام المقبل. خريطة من أبرز سماتها، تفتت التحالفات المذهبية التي ميّزت الأعوام الماضية لصالح تفاهمات عابرة للطوائف، لم تنجح بعد في اختراق الجدار العرقي الذي يفصل بين العرب والأكراد.
ولعل الحراك الأبرز على هذا المستوى ذاك الذي تشهده القائمة العراقية التي يبدو واضحاً أنها انقسمت إلى نصفين: الأول، يضم «جبهة الحوار» بزعامة صالح المطلك، و«العراقية الجديدة» بقيادة جمال البطيخ، و«كتلة الحل» بزعامة جمال الكربولي، وكتلة «العراقية الحرة» بقيادة كتيبة الجبوري. أما النصف الثاني فيضم ما تبقى من «العراقية»، ممن ينحدر أصلاً مما كانت يعرف قبل عام ٢٠٠٩ بجبهة «التوافق»، بقيادة النائب السابق للرئيس طارق الهاشمي ووزير المال السابق رافع العيساوي والرئيس الحالي للبرلمان أسامة النجيفي، ومعهم طبعاً رئيس القائمة إياد علاوي.
وكانت عودة ثلاثة من وزراء العراقية للمشاركة في جلسات حكومة نوري المالكي، الخطوة التي كرست هذا الانقسام، في إشارة إلى عودة المطلك ووزير التربية محمد علي تميمي ووزير الصناعة أحمد الكربولي (شقيق جمال) في ٢٦ آذار الماضي لممارسة مهماتهم في إطار مجلس الوزراء.
وتصف الكتل المتحلقة حول المطلك نفسها بأنها تجمع ليبرالي ضد الطائفية وتتهم باقي أطراف «العراقية»، وخاصة النجيفي، بأنها تجمّع لـ«الإسلاميين الجدد» يحمل مشروعاً لتقسيم العراق. وهي قررت، على ما يظهر، خوض انتخابات المحافظات بالتحالف مع قائمة «دولة القانون» التي يتزعمها المالكي.
وتفيد المعلومات الواردة من بغداد بأن عوامل كثيرة أدت إلى حدوث هذا التقارب، أولها امتعاض الكثير من قادة العراقية من سياسة الجزء المتبقي منها، تحت عنوان أن سياسة هؤلاء الأخيرين تدفع بالبلد إلى أتون حرب مذهبية، الكل يعرف كيف تبدأ ولكن لا أحد يعرف كيف تنتهي. ويحاجج هؤلاء بأنهم حصلوا على ضمانات من قبل «التحالف الوطني» بزعامة إبراهيم الجعفري، لتعديل القوانين التي يمكن أن تساهم في إنهاء أزمة المتظاهرين في المناطق الغربية كقانون المساءلة والعدالة، والمادة 4 إرهاب، وإقرار عفو خاص يطلق سراح من لم تثبت إدانته.
أما بالنسبة إلى المالكي فإن الدافع الأساس وراء هذا التحالف هو استعادة مشروعية سنيّة فُقدت مع اندلاع حركة الاحتجاج في الأنبار عقب حادثة اعتقال أفراد من حماية العيساوي في كانون الأول الماضي. وهو يرى في هذه الخطوة تنفيساً للاحتقان ورافعة لمواجهة الإضرابات في تلك المناطق، من دون أن يخشى أن تتدحرج الأوضاع نحو فتنة، تبدو إرهاصاتها واضحة في موجة التفجيرات غير المسبوقة التي تجتاح بلاد الرافدين، فضلاً عن ظاهرة «كواتم الصوت» التي تحصد يومياً أعداداً ملحوظة من القتلى، ليس واضحاً لماذا تتكتم وسائل الإعلام عنهم. وفي مقابل موقف هذه المجموعة المنشقة عن القائمة العراقية، يعتزم المالكي، على ما تفيد التسريبات، إعطاءها الحصة الوزارية التي كانت من حق لائحة إياد علاوي.
في هذا الوقت، يشهد التحالف الوطني العراقي تصدعاً شبيهاً هو الآخر، أدى عملياً إلى انفراط عقده كتحالف انتخابي. أولى بوادر هذا التصدع انشقاق كتلة الأحرار التابعة للتيار الصدري، في أعقاب المواقف السياسية الأخيرة للسيد مقتدى الصدر الذي وقف عملياً إلى جانب قادة «العراقية» والتحالف الكردستاني في معركتهم المفتوحة مع المالكي. ومعروف أن خلافات الصدر مع المالكي قديمة، تعود إلى ما قبل تشكيل الحكومة الحالية، وقد تفاقمت على وجه الخصوص مع حملة صولة الفرسان، تلك العملية العسكرية التي شنها نوري المالكي على التيار الصدري في البصرة في عام 2008، علماً بأن الصدر كان من أشد المناصرين لتولي المالكي رئاسة حكومته الأولى في عام 2005. ولا تزال جملته الشهيرة «إما المالكي أو أحرق البلد» تصدح في الأروقة السياسية البغدادية. لكن الكثير تغير منذ ذلك الحين، ومرت العلاقة بينهما بمحطات عديدة، لعل أبرزها مرحلة المفاوضات التي استمرت نحو ثمانية أشهر من أجل تشكيل الحكومة الحالية، مارس في خلالها الصدر ما تيسّر له من ابتزاز لانتزاع القدر الأكبر من المكاسب.
لكن العلاقة تدهورت بشكل دراماتيكي منذ انضمام الصدر إلى القائمة العراقية والتحالف الكردستاني في محاولتهما سحب الثقة من المالكي والتي أطلقت في خلال اجتماع أربيل الشهير في نيسان 2012. وأثارت خطوة الصدر هذه موجة من الغضب ضده دفعت به إلى مغادرة مقره في طهران للاستقرار بشكل شبه رسمي في لبنان. ولم تنفع كل جهود الجهات الإقليمية المعنية في التوسط بين الطرفين اللذين شهدت علاقتهما مزيداً من التدهور في أعقاب وقوف الصدر إلى جانب احتجاجات المناطق الغربية، علماً بأن موقف الصدر هذا أدى إلى تدهور شعبيته في الشارع الشيعي بشكل بات ملموساً للجميع. حال تتهدد التيار الصدري بنتائج غير سارة في الانتخابات المقبلة. ولعل أخصام السيد مقتدى يتمنون، في داخلهم، أن يخطو خطوته الأخيرة بالتحالف انتخابياً مع القائمة العراقية ليقضي على أي أمل بالفوز في أي مجلس من مجالس المحافظات.
يبقى المجلس الإسلامي في العراق الذي يحاول المالكي عقد تحالف انتخابي معه، والذي يبدو أن زعيمه السيد عمّار الحكيم يفضل عدم إبرامه. والسبب خلف هذه الرغبة يعود إلى أمرين: الأول أن أي نتيجة انتخابية يحققها المجلس بتحالفه مع المالكي سيعود الفضل فيها، على مستوى الرأي العام، لرئيس الوزراء. أما الثاني فهو رغبة المجلس في اختبار شعبيته تمهيداً للانتخابات الوطنية، وخاصة بعد الجهد الكبير الذي بذله خلال السنوات الماضية على ماكينته الانتخابية من أجل تدارك الأخطاء التي وقع فيها في الانتخابات الأخيرة، وبعد العمل الميداني الواسع الذي قام به بهدف تعزيز حالته الشعبية، علماً بأن خوض المجلس الانتخابات باستقلالية عن لوائح المالكي، لا يعني عدم تحالفهما في إطار جبهة واحدة بعد إعلان النتائج، على ما فعلت كتلتا دولة القانون والائتلاف العراقي في أعقاب انتخابات 2010.



استياء وعتب أميركيان

يبدو أن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري لبغداد حملت من الاستياء والعتب أكثر بكثير مما أظهرته التصريحات العلنية. وتفيد المعلومات الواردة من بغداد بأن كيري عبّر لرئيس الحكومة نوري المالكي عن أن أجهزة الاستخبارات الأميركية تمتلك تقارير موثوقة بأن إيران تستخدم أجواء العراق وأراضيه لنقل مساعدات إلى نظام الرئيس بشار الأسد تتجاوز في أهدافها البعد الإنساني. تضيف المعلومات نفسها إن وسائل الدعم هذه يتم نقلها عبر طائرات شحن وعبر شاحنات، مشيرة إلى احتجاج كيري بأن الأجهزة المعنية في العراق اكتفت بإنزال طائرتين إيرانيتين فقط لم يتم العثور في حمولتهما على أي مواد مثيرة للشبهة. وتختم المعلومات أن كيري كان واضحاً في التأكيد للمالكي بأن العراق لن يكون له أي دور في رسم المشهد الإقليمي المقبل، ما لم يعترض بشكل أكثر صلابة كل شحنات الدعم المتجهة إلى دمشق.
وفي السياق، تشير أوساط اللجنة الخماسية التي شُكلت للنظر في مطالب المتظاهرين في المناطق الغربية بأن الاشتباه أن الغاية الأساسية من حراكهم ليست سوى قطع الطريق على المساعدات إلى سوريا يقف حجر عثرة دون التسريع في الاستجابة لشكاواهم.