كان أحمد عرابي الشخصية المصرية التي صححت «نظرية استعباد العباد»، رغم أنه موروث ثقافي راسخ في ذهن الخديوي توفيق، وأعاد رسم العلاقة العسكرية بين الجيش والرئاسة أو النظام الحاكم في مصر، خلال حقبة زمنية تأثرت فيها مصر بالتدخل الأجنبي وسهولة سيطرته على مقالد الأمور في البلاد. «جينات» الفخر العسكري والاعتزاز بقهر الغزاة إرث حضاري من العصر الفرعوني. لهذا تلحظ عند المصريين هذا التعلق بالجيش واندفاعهم إليه وخضوعهم له؛ وهنا يكمن سر العلاقة بين الجندي المصري والمواطن.
خلال الثورة العرابية، عجز الخديوي عن تجاهل مطالب جيشه، التي أيدها الشعب وامتثل لها، حتى بعدما تقرع كأس الهزيمة بسبب شحنة الأسلحة الفاسدة وهدنة الدول العظمى أثناء محاربته للعصابات الصهيونية في فلسطين عام 1948. غير أنّه أعاد ترتيب صفوفه، رغم عدم اكتراث الخديوي وإهمال شؤونه العسكرية. ويظهر قادة الثورة الناصرية أو منظمة الضباط الأحرار، التي شكلت في ما بعد مجلس قيادة الثورة لانتزاع الحكم الملكي، حيث التحمت صفوف الشعب مع الجيش لتلد ثورة «يوليو» 1952، من رحم فساد الملك والحاشية والتدخل الأجنبي واحتلال قناة السويس.
خلال الحقبة الناصرية، بما فيها سنوات الحكم القليلة للواء محمد نجيب ومن بعده جمال عبدالناصر، انصب الاهتمام على إعادة بناء الجيش المصري، المترهل بسبب سوء إدارة الملك له، ونجحت هذه الفترة في تحديد مسار العلاقة بين مصر والدول الأجنية والعربية.
لم ترتبك العلاقة بين ناصر ومؤسسته العسكرية، وخاصة أن جمال كان أحد أبنائها. ورغم الصراعات السياسية غير المعلنة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، غير أن شخصية ناصر وكاريزمته أهلتاه لاعتلاء المشهد وتصدّره، وانتزع احترام العالم وثقة المصريين، وكيف لجيش قاده ناصر أن يخرج عليه؟
ضغوط ناصر وجيشه وتأييد شعبه، اضطرت الولايات المتحدة إلى أن تلزم دول العدوان الثلاثي (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا) بالرحيل وجاء الانتصار السياسي بجلائهم، وظل ناصر وجيشه وشعبه لحمة واحدة للتصدي لاحتلال بورسعيد. وبفضل الروح المصرية الثائرة على العدوان ومساعدة دول الدب الروسي والتلويح باستخدام النووي لإيقاف مخططاتهم، انسحبت القوات الأجنبية عن مصر، محققة بعض المكاسب في سيناء وخليج العقبة.
لم يهدأ «البكباشي» ناصر وأعاد للمرة الثانية تسليح جيشه وإعداد رجاله بعد هزيمة 1956، وعمل على إقامة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وبدأت شعارات القومية العربية في الظهور، إلى أن جاءت هزيمة 1967.
وكعادة القائد المصري العسكري، حشد ناصر جيشه وضاعف عتاده لمدّة 4 سنوات كاملة، لإيمانه الشديد بالنصر عند المواجهة المقبلة مع العدو. وفي توقيت غير متوقع، مات ناصر عقب انهماكه في حل مشاكل كانت دائرة بين فلسطين والأردن، وتولى رفيقه في ثورة الضباط الأحرار محمد أنور السادات شارة الدفاع عن مصر، فدعم الجيش بكل إمكاناته، وجهز خطة الخداع الاستراتيجي، وأوهم العالم بعدم دخول مصر في حرب جديدة، وأمر برحيل العناصر السوفياتية عن مصر، وحوّل كامل خطط التسليح للجانب الغربي، ومنح الجيش امتيازات أكبر، لعلمه بأنه بطل جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن مصر نهائياً.
عمد السادات خلال رئاسته إلى ارتداء الزي العسكري لإظهار ارتباط المؤسستين الرئاسية والعسكرية، وفي بعض الأحيان كان يقصد توجيه رسائل سياسية للخارج أثناء تأكيده أن تدريبات القوات الجوية التي تشهدها سماء مصر هي «لأولاده»، بما يعكس رعايته المادية والمعنوية لصفوف الجيش. بعد توليه الحكم، نفذ إرادة المصريين وانتزع الانتصار في أكتوبر 1973، قبل أن يسقط اغتيالاً عن المنصة التي تشهد احتفالات نصر أكتوبر على أيادي جماعات اسلامية.
أتى بعده محمد حسني مبارك، الرئيس المخلوع بإرادة شعبية، متخرج القوات الجوية وصاحب الطلعة الجوية الأولى ليكمل مسار استرداد أرض مصر دبلوماسياً وسياسياً وتعود طابا. تزامنت بدايات حكم مبارك مع نهاية انتصار مدوٍّ أذهل العالم، وظلت قيادات القوات المسلحة تدفع بتطوير مهارات عناصر الجيش وتسليحه، رغم تعمد الولايات المتحدة تسليح الجيش المصري بأسلحة أقل تطوراً، مقارنةً بتسليح إسرائيل. لكن الشعب المصري ثار على حاكمه، ابن القوات المسلحة، بعد سنوات من الجور والتجويع. عندها انحاز الجيش بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي إلى الجموع الغفيرة، التي طالبت بالتغيير لتحقيق مطالب «العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية». واصطفت القوات المسلحة، بعد انتشارها في غضون دقائق مع انهيار المنظومة الأمنية في مصر، إلى جانب المواطنين لتقديم الحماية المدنية، إلى أن سلمت السلطة في حزيران 2012 بعد 18 شهراً من إدارة الفترة الانتقالية.
الرئيس محمد مرسي كان أول مدني يحكم المحروسة. لم يزد أي بصمة جديدة على الجيش المصري، فيما ظلت أجندة الجيش تقوم على مداراة السياسة والاتكال على مبدأ «الدفع الذاتي»، وخصوصاً أن تعاقدات الأسلحة والتدريبات والاستعدادات القتالية كانت مبرمة في فترة النظام السابق، فضلاً عن أن هذه الصفقات لا يتدخل فيها رؤساء الدول وتكون مكفولة لمسؤولي قطاع التسليح والتدريب فقط بإشراف القيادة العامة للقوات المسلحة وأعضاء المجلس العسكري بالإجماع، سواء كان القائد الأعلى للقوات المسلحة ذا خلفية مدنية أو عسكرية.
سياسة مرسي غير المعلنة جاءت لتهدم قواعد العملية العسكرية وتبني جيش للجهاد الإسلامي. غير أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي حاول مراراً خلال خطاباته توجيه المسار، وقام بجولات مكوكية بين عناصر القوات المسلحة في مختلف القطاعات لاستعادة روحهم المعنوية بعدما تأثرت بالعمل على الخط الداخلي للبلاد طوال الفترة الانتقالية، إضافة إلى قيامه بتعزيز قدراتهم وزيادة مهاراتهم والانخراط بينهم ومشاركتهم التدريبات وحضورها.
في المقابل، ظلت اللجان الإلكترونية تصبّ سيلاً من الشائعات على القيادات بعدما نجحوا في إطاحة المشير طنطاوي بعد مجزرة رفح في آب 2012. ومع كمّ الإهانات التي وُجهت إلى قادة الجيش وعناصره، عزم الشعب المصري على لفظ الرئيس الإخواني، الذي وجدته مسؤولاً مع جماعته عن هذا الوضع. وما إن قامت الجماهير بالاحتشاد في العاصمة والمحافظات، استجابت القوات المسلحة ووضعت نهاية لتجاوزات بعض القيادات السياسية.
توتر العلاقة بين الجيش ومؤسسة الرئاسة ظلت كامنة وراء تصرفات يفتعلها أنصار الرئيس المعزول، بالتزامن مع لامبالاة واعتذارات متكررة من قياداتهم، مع توجيه دعوات مباشرة إلى إقصاء القادة العسكريين، رغم تأكيداتهم المستمرة لضرورة معالجة الخلافات الداخلية بالحوار. وهكذا، مع أول رئيس منتخب من خارج المؤسسة العسكرية، انتفض الشعب عليه، فاستجاب له الجيش، لتعود من جديد المعادلة التاريخية بين الجيش والشعب... وكرسي الرئاسة، بانتظار ما ستغيره المرحلة الانتقالية الراهنة.
إيمان...