كان ابن عمي محمد الذي يكبرني بأشهر قليلة، يشاركني الصف نفسه في روضة الهدى. ولأننا كنا نسكن في الدار نفسها فوق بيت جدتي سودة، كنت أستيقظ على صوت زوجة عمّي وهي تصرخ على محمد حتى يستيقظ، فقد كان يحب النوم كثيراً؛ وكان من المستحيل إيقاظه في أيّ من أيام الأسبوع. لذلك كانت زوجة عمّي تفعل كل شيء وأيّ شيء كي توقظه.
أكثر ما كان يضحكنا – ولا يزال حتى اللحظة - أنه كان يخرج من سريره، ويبقى نائماً، وقد يبقى نائماً إذا ترك على حاله في مكانه، يعني كان من الممكن أن يبقى واقفاً لساعة نائماً على قدميه. هكذا كان محمد، لذلك كانت والدته تجره إلى الحمام، تغسل له وجهه، ومع هذا قد يبقى نائماً حتى يخرج من البيت. أذكر مرة انشغلت عنه أمه قليلاً، وذهبت إلى المطبخ وحينما عادت وجدت أنّه ليس في الحمام، فاعتقدت أنه قد ذهب إلى المدرسة، فعادت إلى المطبخ لإكمال إعداد الفطور لبقية أفراد العائلة. عند الساعة الواحدة تقريباً خرج محمد من غرفة المونة وهو يتمطى، ساعتها تنبهت أنه لم يذهب إلى الروضة، بل كان نائماً في غرفة المونة على كيس الطحين القديم.
طبعاً كل هذا كان يحدث أيام الأسبوع، أما يوم الجمعة، فقد كان الأمر مختلفاً جداً. كنا نركض ركضاً حثيثاً للوصول إلى الروضة حتى قبل أن تفتح، وننتظر بفارغ الصبر ان نبدأ نهارنا بتناول المناقيش بالجبنة البيضاء (لا الزعتر ولا المجدرة ولا الحليب!) كما ان اليوم كان يوم الأنشطة الترفيهية والأشغال اليدوية كصنع بطاقات من الكرتون الملون والرسم على جدران الملعب مع معلمة صفنا. اذكر يوم قررت معلمات الروضة عرض مسرحية للدمى في الملعب الداخلي للروضة، وضعوا مجسماً خشبياً مزينا بالنقوش وقصاصات الورق على شكل شجيرات وورود. جلسنا جميعنا – أطفال الروضة- على أرض الملعب أمام بيت الدمى بانتظار أن تبدأ مسرحية "جعيدان".
وتحكي المسرحية قصة ملك سمع ان "سلمى" ابنة طحان القرية تستطيع تحويل القش الى ذهب لامع، فأتى بها الحراس الى المملكة وحبسوها في غرفة مليئة بالقش، إضافة الى دولاب غزل خشبي، حيث أمرها الملك بتحويل كل القش الى ذهب وان لم تفعل كما يريد، فستظل مسجونة الى الأبد! لكنه وعدها انه حالما تحول القش الى ذهب فانه سيزوجها لابنه الأمير حسن. أخذت سلمى تبكي، لا تدري ماذا تفعل، فسمعت أحداً يقول لها: "لا تبكي، انا سأساعدك". التفتت الى أكوام القش فلمحت قزماً ذا أنف كبير يقترب باتجاهها. أخبرها انه يستطيع ان يحوّل القش الى ذهب، لكنه يريد منها شيئاً بالمقابل، يريد أن تعطيه اول طفل لها ان تزوجت الأمير. قالت سلمى: "سأعطيك أي شيء تريده ان استطعت ان تنقذني"، وفعلاً، حوّل القزم كل القش الى ذهب. دهش الملك عندما رأى الغرفة على هذه الحال، وزوّج سلمى للأمير. نسيت سلمى أمر القزم حتى ظهر مجددا بعدما انجبت طفلها الأول وطالبها بالوعد الذي قطعته له منذ سنة.
أرادت سلمى أن تتخلّص من القزم فأخبرته انها ستعطيه مجوهراتها وأي شيء من القصر عوضا عن اتفاقهما، لكنه لم يقتنع وقال لها: "ان استطعتِ تخمين اسمي، فسأرحل ولن آخذ الطفل، لكن ان لم تخمنّيه فسآخذه معي". جرّبت سلمى كل الأسماء التي تعرفها لكن القزم ظل يضحك ويجيب "لا، ليس هذا اسمي، ولن تحزري ما هو". في اليوم التالي، طلبت سلمى من الحراس ان يفتشوا لها عن أسماء غريبة وجربتها كلها، لكن القزم ضحك كثيرا وأخبرها ان امامها يوما واحدا فقط. في تلك الليلة اخبرها احد الحراس انه مر من الجبل ورأى القزم يغني انا انا جعيدان، لا احد يعلم اسمي، انا انا جعيدان، وفي صباح اليوم الثالث اتى القزم عند سلمى، لكنه حالما اخبرته باسمه غضب كثيراً واختفى.
كانت المرة الأولى التي أرى فيها مسرحاً للدمى، فاتفقت مع محمد على ان نأخذ احدى الدمى القماشية دون ان يرانا أحد من الروضة. وضعتها تحت ثيابي وركضت وركضت وركضت حتى وصلت إلى منزلنا، وخبأتها في غرفة المونة. ثم دخلت عند سودة. لاحظت عليّ جدتي انني شاردة ومتبسّمة فنهرتني قائلة: شو مالك ولي؟ ليش عم تضحكي زي الهبلة؟ طبعاً كان من الصعب على طفلةٍ في الخامسة أن تشرح لجدتها –الضيّقة الخلق- عن الدمى وماهيتها. لم أجبها، فطردتني من غرفتها.
لكن سرعان ما تحوّل فرحي بالدمية الى خوف. ظننت ان أحدا ما سيعلم انني أخذت الدمية من الروضة وأنني أحتفظ بها في البيت. بقيت أياماً بعدها خائفة، وكلما سمعتُ طرقاً على الباب، وكلما ناداني والدي، وكلما ندهت لي ستي، متّ من الرعب منتظرةً أن يأتي من يأخذني إلى العقاب لأنني سرقت تلك الدمية. ظللت لأسابيع طويلة وعديدة على تلك الدمية وأمسح عليها وألعب بها في الخفاء حتى اختفت يوماً من غرفة المونة، فعلمت أنَ زوجة عمّي وجدتها فلم تعرف ما هي، فرمتها دون أي اهتمام. بكيتُ طويلاً وسألني الجميع عن سبب بكائي، لكنّ اللافت أكثر من أي شيء أن جدتي سودة، نظرت إلي، توقعتُ أن تنهرني كما تفعل عادةً، لكنها قالت: تعالي، شو مالك يا ام عيون زرق؟ ضمتني إليها قليلاً، أجلستني إلى جوارها، وأطعمتني بعضاً من الكستناء التي كانت تشويها، وقالت لي: مسحي دموعك يلا، وكلي، الكستنا بتنشف الدموع. لا ادرِ لِمَ نسيت دميتي ودموعي وجلست آكل كما لو أن الدنيا كانت كلها ملكي وقتها.