أطاح الجيش المصري الرئيس محمد مرسي، ومنذ ذلك الوقت تسارعت التحليلات حول أبعاد هذه الخطوة، بين قائل بزوال حكم الاسلاميين، وبإن أحجار «الدومينو» الاخواني لن تلبث أن تتهاوى، وقائل إنها مجرد سحابة عابرة لن تلبث أن تعود بسبب امتدادها في تركيا وتونس والمغرب وغيرها. ومهما يكن من أمر فإن السؤال الأساس هو: الى أي مدى ستترك التجربة الاسلامية في مصر آثارها على دول الجوار؟
قد يبدو التساؤل في غير محله على اعتبار أن مصر لم تكن التجربة الأولى لهم، اذا ما أخذنا بعين الاعتبار التجربة التركية، التي كانت تبدو ناجحة ببعض الاعتبارات لولا مداهمة الأزمة السورية لها.
ومع ذلك، فان التجربة الإخوانية في مصر مختلفة عن نظيرتها التركية نظراً لارتباط فروع التنظيم في الدول العربية الأخرى بالتنظيم الأم في مصر، ارتباطا فكرياً أكثر منه ارتباطاً سياسياً.
الاسلاميون في مصر لم يعتادوا السلطة، ولذلك، فان هذا التيار لن يلفظ أنفاسه الأخيرة بمجرد خروجه منها. بل على العكس تماماً؛ لقد تعرض «الإخوان» على مر العقود للملاحقة من قبل خصومهم، ابتداءً من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مروراً بأنور السادات وصولاً الى حسني مبارك. ومع ذلك بقيت شبكاتهم متماسكة، بل اشتد عودها، ويشدّ من عصبيتهم شعورهم بالاضطهاد، مشفوعاً بإيمانهم بـ«حتمية النصر». ودفعت هذه الملاحقات بالاخوان إلى العمل السري وتنمية تنظيمهم بشكل مضاعف.
لطالما أعطى «الاخوان» الاولوية لوحدة تنظيمهم وتماسكه، ولذلك من المستبعد أن يقوموا بقراءة نقدية لأدائهم في الحكم. أما الخوف من القراءة النقدية، فيعود للخوف من فقدان القيادة المركزية السيطرة على باقي التنظيم، لأن الاعتراف بالخطأ قد تتبعه مطالبة الصف الثاني من القيادات باجراء تغييرات جذرية قد تطيح القيادة الحالية.
لقد تعامل «الاخوان» مع السلطة منذ وصولهم للحكم معاملة الجائع الذي وجد نفسه أمام مائدة مليئة بالأطايب من الطعام والشراب، فأخذ يأكل بنهم كبير. حاولوا خلال عام واحد أن يغيروا في التركيبة السياسية المصرية ما احتاج غيرهم إلى سنوات للوصول اليه؛ فشاب اداؤهم التسرع في محاولة ايصال جماعتهم لمراكز القرار ومفاصل الحكم، الذي وصلوا اليه بسبب تضعضع خصومهم.
لقد أثبت «الإخوان» قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعدها أنهم المجموعة الأكثر تنظيماً في مصر وتعتمد في ذلك على شعبية موالية.
ولم يقتصر الفشل الاخواني في الحكم في مصر على فشل في الادارة السياسية والاقتصادية للبلاد بقدر ما كان فشلاً «مفاهيمياً» في الرؤى والبرامج السياسية، فضلاً عن بروز نزعة استبدادية تسلطية ربما فاقت غيرها مما لدى العلمانيين.
والخطير في هذا الفشل بالرؤى والبرامج هو محاولة السيطرة وتقييد الآخر بالفتاوى الشرعية واتهامه بالعداء للاسلام أو لتطبيق الشريعة الاسلامية، وهي فتاوى يمكن تكييفها وفق الظروف والمتغيرات. ولعل هذا الفشل «المفاهيمي» هو الأخطر ليس على وجود الاخوان في السلطة أو على عودتهم اليها وحسب بل هو تهديد وجودي لهم ولحركتهم. ويرتكز هذا الفشل على عدم قدرتهم على تطوير وبلورة الافكار عن الحكم والاقتصاد والادارة السياسية.
لقد كان وصول الاخوان الى السلطة تحدياً عملياً كبيراً لهم؛ فقد كانوا لسنوات يطلقون الشعارات بأن لديهم الحلول الناجعة للأزمات التي تعصف بمصر، ومع وصولهم للحكم أصبحت هذه الشعارات على المحك.
ربما فوجئ الاخوان بسرعة وصولهم الى الحكم، ولم يكن لديهم الوقت لاجراء هذه المراجعة المفاهيمية. وربما راهنوا على الطبيعة المتدينة للشعب المصري بشكل عام؛ فمن الصعوبة بمكان تصور مصري يعارض وصول الاسلام الى السلطة.
لقد تبين للشريحة الواسعة من المصريين بعد تجربة الاخوان أن الإسلام شيء والممارسة السياسية للمسلمين شيء آخر. وربما يتحمل الاخوان المسؤولية الأخلاقية عن ترك هذا الانطباع في الشارع المصري.
لم يستوعب التنظيم الدرس جيداً؛ فعمدوا الى اطلاق التهم على معارضيهم بأنهم معارضون للاسلام، فاختزلوا الاسلام بأنفسهم. وتلك مشكلة كبرى لا شك أنها ستترك أثراً كبيراً في المستقبل على حركة الاخوان في مصر بل وعلى فروعه وتشعباته في العالم العربي والاسلامي.
لقد برع «الإخوان» بقيادة مرسي في الحكم خلال سنة واحدة في صناعة الأعداء والخصوم. قدموا بأيديهم دليلاً على أن الجماعة خارج السلطة أفضل منها بكثير داخلها. انتقلوا من جماعة كانت تقدم نفسها على أنها ضحية للاضطهاد الى جماعة تضطهد غيرها.
لم يكن الفشل الاخواني في الحكم فشلاً للاسلام السياسي، بل كان فشلا لنموذج من نماذجه. ان اختزال الاسلام السياسي بالتجربة الإخوانية فيه الكثير من الاجحاف.
وفي جميع الأحوال، من الغباء الاعتقاد أن الاسلاميين سيخرجون من المشهد السياسي، ولا بد من الاعتراف بأنهم سيظلون لاعبين أساسيين سواء كانوا في السلطة أو خارجها. ان العقلية الاخوانية في ادارة الأزمة منذ بدايتها حتى الآن تشير بوضوح الى أنهم لن يتنازلوا بسهولة عما يعتبرونه مكاسب أوصلتهم الى السلطة. وهم قطعاً لن يستسلموا لهذه الاطاحة بهم.
عدم الاستسلام يعود الى الخوف الاخواني من انتقال هذه الاطاحة الى دول الجوار. استسلام الاخوان في مصر سوف يضعف معنويات فروع التنظيم خارج مصر وبالمقابل يشجع الآخرين على محاولة استنساخ التجربة المصرية في الدول الأخرى. الاخوان اذن لن يستسلموا، لكن يبقى السؤال: الى أي مدى سيذهبون بالمواجهة؟