ريف دمشق | إلى الجنوب الشرقي من مدينة دمشق، وعلى طريق مطار دمشق الدولي، تقع عند الجسر الخامس مجموعة من المطاعم التي حازت شهرة فريدة في سوريا وجوارها، في مرحلة ما قبل الأحداث. أهمها مطعم «بوابة دمشق» الذي يتربع على مساحة 54 دونماً، والذي دخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية كأكبر مطعم في العالم.
وإلى جانبه توجد مدينة التزلج «سكي لاند»، ومطاعم أخرى كذلك، ليست بأقل شهرة. كان السوريون قبل الأحداث ينظرون إلى هذه المنطقة كعالم مستقل للترفيه، ولا يوفرون أية فرصة تتيح لهم الوصول إلى هناك. على العكس تماماً مما يجري اليوم؛ إذ يفر أهالي القرى المحيطة كـ«حتيتة التركمان»، التي تعرف عند الأهالي بـ«حتيتة البصل»، وقرية «دير العصافير» و«شبعة» من العنف الدموي الذي طحن، ولا يزال يطحن، ذلك الجزء من الريف، الذي يمتد من ببّيلا إلى مطار دمشق الدولي، ويمر بالترتيب عبر بيت سحم وعقربا ثم السيدة زينب، فيما تقع تلك القرى المنسية التي نتحدث عنها إلى ناحية الشرق من هذا المحور خلف جرمانا مباشرة.
عمل معظم الشبان في تلك القرى سابقاً في المطاعم المجاورة، أما من بقي من الأهالي، فواصل العمل في المهنة الأساس، الزراعة.
ومع بداية الأحداث وصل التوتّر متأخراً إلى هذه المناطق، قياساً بالتصعيد الذي شهدته بقية الغوطة الشرقية، وبالأخص الجزء الشمالي منها. وحتى ذلك التوتر اقتصر على حوادث بسيطة، كما يقول محمد، الشاب العشريني من حتيتة التركمان: «بعدما سمعنا عمّا جرى في دوما وما حولها، في أول شهرين من الأحداث، توصل الأهالي مع المختار إلى صيغة لتشكيل لجان شعبية في الضيعة لحمايتها من العنف، أياً كان مصدره. وبعد يوم من هذا الاتفاق، أعلم المختار الأهالي بأن اللجان ستتبع لإدارة الأجهزة الأمنية، وأنّ عليها أولاً أن تعمل على تسليم بعض أبناء الضيعة ممن ذهبوا إلى دوما تعاطفاً»، إلا أن الأهالي لم يجدوا في ذلك بداية لحلّ المشكلة، كما كانوا يبتغون في حينه، فبقي موضوع تشكيل لجان شعبية، للدفاع عن الضيعة، مجرد «حكي»، على حد تعبير محمد.
لكن اللافت أنّ أهالي هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، التي تضم القرى الثلاث، ظلّوا حتى وقت متأخر نسبياً من بداية الأزمة (سنة تقريباً) غير مسلحين، ولم يصطفوا إلى جانب أي من الطرفين؛ إذ لم تصلهم ارتدادات الحرب الطاحنة في المناطق اللصيقة بهم، كالسيدة زينب، وبيت سحم وعقربا، فبقيت هذه القرى، حتى ذلك الحين، خارج التاريخ الدموي لسوريا الذي بدأ منذ عامين ونيف.
إلا أن القصة بدأت عندما ضُرب الحصار على المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية إجمالاً، من جانب الجيش السوري، ما دفع بعض مجموعات من «جبهة النصرة» إلى السيطرة على المطاعم المجاورة التي توقفت عن العمل قبل ذلك بكثير نتيجة لحالة شبه الانقطاع في طريق المطار مذ بدأت رحى المعارك تدور حوله وعليه.
وأيضاً دخل عناصر من «الجيش الحر» إلى داخل القرية (حتيتة التركمان)، وتحصنت فيها. فوجد الأهالي أنفسهم وجهاً لوجه أمام معركة عاتية قد تبدأ في أي لحظة. يقول حسين، ابن عم محمد: «سمح لنا بقاؤنا فترة طويلة بعيداً عن الصراع بتقدير الأمور بشكل صحيح وتجنب التورط فيه، لكننا وجدنا في ضيعتنا فجأة مقاتلين يعدّون المتاريس، ما أثار الذعر لدى الأهالي فسارعوا إلى إخراج النساء والأطفال من الضيعة، من طريق الجسر الخامس على طريق المطار».
وعندما سألته «الأخبار» عن الرجال والشباب، أجاب: «لا بد أن يبقى رجل واحد على الأقل في بيته لحمايته من السرقة، فقد رأينا بأعيننا كيف سرقت المطاعم من جانب قيادات جبهة النصرة والجيش الحر، لن نسمح بأن يحدث شيء مماثل لبيوتنا».
بعض شباب القرية كان بحوزتهم أسلحة فردية، مسدسات وبنادق آلية، اشتروها، بحسب نزار، من «الجيش الحر الذي رفض إعطاءنا السلاح في البداية، لأننا متخاذلون بنظرهم، فباعنا أياه».
ويضيف: «من ينظر إلينا من الخارج يعتبرنا الجيش الحر أو جبهة النصرة، لكننا أبعد ما نكون عنهما، ولا سيما بعدما رأينا سرقاتهم للمطاعم ولبعض البيوت التي فرّ أصحابها.
كم يشبه هذا التجنيد الإجباري! فقد اضطررنا في غير مرة إلى مواجهة نيران النظام، التي لا تستطيع أن تميز بيننا وبينهم».
لم يبدِ أي من هؤلاء الشباب ثقة في فكرة تسليم السلاح وتسوية الأوضاع، فما دامت الضمانات شبه غائبة، تراهم يتعاملون مع مثل هذه الخطوة كآخر الحلول بالنسبة إليهم.
وهم إذ يسعون إلى الخروج من المستنقع، الذي وجدوا أنفسهم عالقين فيه، يذهبون إلى حلول تحمل في طياتها الكثير من المخاطرة والضرر، كالهروب إلى مناطق أخرى، ومنها إلى خارج البلاد.