الخرطوم ــ «الأخبار» «الخرطوم تشتعل». قد يكون هذا العنوان الأكثر ملاءمة للاحتجاجات التي تشهدها عاصمة السودان منذ نحو أسبوع، فغالبية التظاهرات الغاضبة من المواطنين اتجهت الى إشعال كل ما تقع عليه عينها قبل يديها.

يبدو ان محركات هذا الغضب تتجاوز القرارات الحكومية برفع الدعم عن المحروقات، لأن غالبية الهتافات في الشوارع كانت تنادي باسقاط نظام الحكم بكامله، لا بتراجع الحكومة عن قراراتها الأخيرة.
وبالرغم من تضارب أعداد القتلى الذين سقطوا جراء التظاهرات، ما بين رصد مواقع التواصل الاجتماعي التي نشرت بالأسماء والصور أعداداً كبيرة من الضحايا، واحصائيات الحكومة التي قالت إنهم لا يتعدون الستة أشخاص فقط، إلا أن شهود عيان نقلوا عن أقارب لهم في مناطق مختلفة أن العدد يفوق الـ(150) شخصاً. ونقل شهود عيان من مشرحة في مستشفى بشائر جنوب الخرطوم، عن مشاهدتهم عشرات الجثث مساء أول من أمس، دون أن يتسنى للصحيفة التأكد من مصدر طبي بالمستشفى.
لكن مصدراً طبياً في أم درمان، قال إن مستشفى المدينة استقبل أول من أمس (184) حالة إصابة، و(51) حالة وفاة، مضيفاً أن مستشفى «الخرطوم بحري» استقبل في ذات اليوم (135) حالة، توفي منهم (13). وأشار إلى أن كل الاصابات كانت ناتجة من الرصاص الحي.
الهدوء الذي ساد العاصمة منذ صباح أمس، كان مثار تساؤل وتوجس الكثيرين، حيث بدأت المصالح الحكومية والمحال التجارية في مباشرة أعمالها الاعتيادية في وقت متأخر نسبياً، إذ حرص كل شخص على عدم التوجه إلى مكان عمله إلا بعد الاتصال مع آخرين والتأكد من فتح الشوارع، وانسياب حركة المواصلات والاطمئنان إلى هدوء الأوضاع عموماً.
وعلى عكس اليومين الأولين، شهدت منطقة وسط المدينة انتشاراً كثيفاً لقوى الشرطة والأمن، تمركز حول المقار الحكومية والمصارف، فيما قلّت حركة السيارات العامة كثيراً، مقارنة بسيارات الشرطة التي ظلت تمشّط الأسواق ومختلف الشوارع.
الحكومة ماضية في قراراتها
الحكومة من جانبها ماضية في سياستها، اذ لم يتورع نائب رئيس الجمهورية علي عثمان طه، عن إعلان عدم تراجع الحكومة عن قراراتها المثيرة لسخط الناس، فقد قال أول من أمس، في اول تصريح حكومي بعد انفجار الأوضاع، إن «الحكومة لن تتراجع عن القرارات التي تتخذها، وإنها لا ترفض التظاهرات السلمية، لكن لن تتهاون (مع من سماهم) المخربين والمتفلتين».
ما يحدث في شوارع الخرطوم تحركه دوافع تتخطى إجبار الحكومة على التراجع عن رفع الدعم عن المحروقات. يعزز ذلك اقتصار عملية التعبئة في وسائل التواصل الاجتماعي بين الشباب الذي يقود الاحتجاجات، على التأكيد على هدف اسقاط النظام. اضافة الى دعوة الاتحادات المهنية مثل نقابة الأطباء وغيرها الى العصيان، فضلاً عن محاولات، تحالف القوى المعارضة، المستمرة، لحث الشعب على الخروج لاسقاط نظام «جبهة الانقاذ».
الحزب الحاكم يحشد
وهو ما يفسر حشد حزب المؤتمر الوطني الحاكم جميع كوادره ودفعها الى الشوارع، وتهديد طه قائلاً: «سينزل شبابنا الى الشارع لحماية الممتلكات العامة والخاصة من المتفلتين والمخربين».
لكن الإشارة الأبلغ في هذا الإطار توصيف الأجهزة الأمنية الرقابية التي تشرف على عمل وسائل الاعلام المحلية والاجنبية العاملة في الخرطوم، لطبيعة تغطية الأحداث بـ«إعلام حرب». وتشديدها على وجوب تعامل الإعلام المحلي معها على هذا الأساس، ومنع نشر حتى صور وأخبار الأحداث.
لقد أصبحت الخرطوم عبارة عن ثكنة عسكرية حيث شوهد انتشار كثيف لقوات الجيش ومدرعاته، كما حلّقت في الأحياء الجنوبية من العاصمة مروحيات للجيش. ورغم أن التظاهرات بلغت ذروتها أول من أمس، إلا أن متابعين يرون أنها ستتواصل لا سيما مع تصاعد عمليات القتل الوحشي على المدنيين العزل في كل أحياء العاصمة. وشهدت مدينة بورسودان (الميناء الرئيسي للسودان) أمس حركة احتجاجات في السوق الرئيسي وسطها.
غير أن خفوت حدة التظاهرات بصورة مفاجئة أرجعه البعض إلى نجاح الآلة الإعلامية الحكومية في توظيف صور الدمار والتخريب الذي أصاب العديد من الممتلكات والمرافق العامة، وتأليب المواطنين على المتظاهرين، حتى اتخذ الكثيرون منهم موقفاً ضد التظاهر.
في هذا الوقت، يرى محللون سياسيون تحدثوا لـ«الأخبار»، بأن ما حدث خلال اليومين الماضيين من تخريب واعتداء على الممتلكات العامة، ما هو إلا مخطط تقف وراءه السلطات الأمنية الحكومية، والتي تعمّدت خلق فراغ أمني كبير، يتيح لـ«البلطجية» الذين دستهم وسط المتظاهرين، إثارة حالة من الفوضى والتخريب. وبالتالي تهديد جماهير الطبقة الوسطى التي تقود التظاهرات بصورة سلمية، وتسعى من خلالها لإسقاط النظام.
ويقول محلل سياسي رفض الكشف عن اسمه لـ «الأخبار»، إن ما حدث من قتل وترويع للمواطنين المتظاهرين، يشبه تماماً ذات سيناريو أحداث «الإثنين الأسود» الذي أعقب وفاة زعيم الجنوبيين العقيد جون قرنق. يومها عمت الفوضى والقتل الخرطوم وسط غياب تام لقوات الشرطة والجيش، مما زاد عدد الضحايا.
وعاب المحلل السياسي على الأحزاب التخلف عن قيادة التظاهرات، وقال إنه «في هذا التوقيت بالذات ينبغي أن تتحرك تلك القيادات وتقوم بتنظيم عصيان مدني شامل، وتنظيم تحركات المواطنين، وما لم تستغل المعارضة هذا الحراك الكبير وتسقط النظام هذه المرة فإنها لن تنجح في اسقاطه مرة أخرى».
فشل المعارضة
وفشلت قوى تحالف المعارضة أمس في عقد اجتماع مُعلن في منزل الرئيس الأسبق إسماعيل الأزهري (أول رئيس لجمهورية السودان بعد استقلالها عن الاستعمار الإنكليزي 1956-1969)، في أم درمان لبحث الأوضاع واتخاذ خطوات مهمة، وطوّقت قوات الأمن منزل الأزهري ومنعت المعارضة من عقد اجتماعها، فعاد قادتها أدراجهم إلى منازلهم دون أن يتوجهوا إلى الشارع.