دمشق | منذ بداية الأزمة السورية ودخول الجيش على خط المواجهات، برز تحدٍّ جديد للسلطة تمثل برفض العديد من الجنود إطلاق النار وفرارهم، لكن الأمر بقي في حدود تمكّنت ضمنها المؤسسة العسكرية من تدارك الوضع. إلا أن التبدل الأهم تمثّل في وصول الانشقاقات إلى ضباط في الجيش. هكذا أعلن المقدم حسين هرموش في منتصف حزيران الفائت تشكيل ما يسمى الضباط الأحرار، الذي ضم إلى جانبه عدداً من الضباط، بحسب المقدم الذي فرّ إلى تركيا قبل أن تتمكن الأجهزة الأمنية من استدراجه إلى الداخل واعتقاله وإعدامه، ليبرز لاحقاً تنظيم آخر هو «الجيش السوري الحر» ويتصدر اسمه العناوين مع إعلانه للمرة الأولى مسؤوليته عن مقتل عشرات الجنود والضباط وما يعرف بـ«الشبيحة»، وخصوصاً في المناطق التي تشهد توتراً أمنياً لافتاً، كما في حمص وإدلب ودير الزور، فيما يقوم في مناطق أخرى بحماية المتظاهرين.
ويرى بيتر هارلينغ، المحلل في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، الذي قضى عدة سنوات في دمشق، «أن الجيش السوري الحر مجرّد مظلة لمقاتلين متباينين أكثر من كونه مركز قيادة حقيقياً. الناس يرون مصدراً للشرعية في مسمى «الجيش السوري الحر» هذا، لكن ما لدينا هو مجموعات تظهر على مستوى شديد المحلية أغلبها من المدنيين الذين ينضم إليهم منشقون. لكنها ديناميكيات محلية وليست على مستوى البلاد». والتحليل نفسه يطلقه المحلل المقيم في لندن، جوليان بارنز ديسي، الذي يرى أن «معظم هذه المجموعات تعمل على أساس محلي شبه مستقل».
وبحسب قول أحد الناشطين الميدانيين في حمص، إن «تعداد المنشقين في حمص وحدها بالآلاف، وهم متنوعو الرتب ويتمركزون في مختلف أحياء المدينة التي تشهد مواجهات يومية بينهم وبين الجيش النظامي وفرق الأمن، ويقومون في كل ليلة بتطويق التظاهرين منعاً من استهداف الأمن لهم، أو في حال وصول الأخير فإن المنشقين كفيلين بالاشتباك مع القوى الأمنية، وهو ما يتكرر في عدة مناطق سورية رفض العديد من الناشطين فيها الحديث عن مدى انتشار المنشقين».
لكن التدقيق الميداني يظهر أن مصطلح «منشقين» بات يطلق على كل من يحمل السلاح في وجه النظام، أما الجنود والرتباء والضباط المنشقون، أي الفرار في تعبير أدق، فلا يتجاوزون 3% من المسلحين، وهم صفر في بعض المناطق. وكشفت قائمة القتلى في «مجزرة كفر عويد للجيش الحر» كما يطلق عليها، أن قتيلين فقط هما فرا من الخدمة، من أصل ما يتجاوز 120 قتيلاً، هم جزء كبير من مجموعات مسلحة صورها صحافيون أجانب على أنهم من الجيش المنشق.
ويقول الرائد المنشق ماهر النعيمي إن الجيش السوري الحر لديه 22 لواءً في أنحاء البلاد يقود كلاً منها قائد محلي مسؤول عما يصل إلى ست سرايا. اللافت بروز دور الجيش المنشق في ريف دمشق أخيراً مع تضارب في الأقوال، بين من يتحدث عن تصديه للعمليات الأمنية ومن يشير إلى ممارسات لا علاقة لها بالعمل الميداني العسكري، بل تصنف في خانة الجنايات. وتشير الممثلة السورية، لويز عبد الكريم، إلى اقتحام مسلحين تابعين للجيش الحر أحد مكاتب شركة الاتصالات في مدينة زملكا بريف دمشق، وطلبوا تسليم كل الأموال التي بحوزتهم، قائلين للموظفين: «هذه الأموال الثوار أولى بها». فيما تحدث عدنان، وهو صاحب ورشة للنجارة في المدينة ذاتها، عن أن مسلحين يجبرونه على إغلاق محله كلما أراد فتحه بدعوى ضرورة المساهمة في إضراب الكرامة. أما شقيقه، الموظف في إحدى الدوائر الرسمية، فيؤكد تعرضه يومياً لمضايقات من المسلحين، وصلت إلى الاستيلاء على سيارته بحجة أنه من أعوان النظام.
كلام يتقاطع مع روايات عديدة للأهالي في حرستا بريف دمشق أيضاً، عن تكسير لواجهات محال قيل إن أصحابها مؤيدون للنظام، وأخرى لم تشارك في الإضراب، بحسب قولهم، ووصلت إلى تصفية أطباء وموظفين بدعوى مساعدتهم للأمن.
حديث أهل زملكا يقابله كلام إيجابي من الزبداني الواقعة في ريف دمشق عن تمكن «الجيش الحر» من توفير المواد المفقودة بالنسبة إلى الأهالي إثر تمكنهم من الاستيلاء على المدينة بعد اشتباكات عنيفة مع الأمن والجيش. ويشير القاطنون في المدينة التي كانت أهم مصايف سوريا، إلى أن «الجيش الحر» نجح في إيصال المازوت والغاز وغيرهما من المواد التي كانت شبه مقطوعة عن المنطقة الجبلية، قبل أن يستعيد الأمن سيطرته بعد تعزيزات كثيفة جاءت من دمشق، فيما يلفت الناشط سامر عبود من حمص إلى أن عمليات يومية تشهدها أحياء المدينة المتوترة بين المنشقين والجيش النظامي، وفي بعض الأحيان يعمد هؤلاء إلى ضرب الأحياء المؤيدة للنظام، كما في عكرمة والزهراء والنزهة، ما يفاقم المشاكل، فيما يتريث الجيش في تنفيذ حل عسكري شامل بوجود المدنيين المتوزعين في الأحياء.
إلى جانب الدور الميداني الذي يثير الجدل للمنشقين، فإن علامات استفهام كبرى باتت توضع عن حقيقة «الجيش السوري الحر». ويتحدث الناشط طارق عبد الله من دمشق، عن أسماء كتائب الجيش المنشق التي تكون في غالب الأحيان ذات طابعين: مذهبي وطائفي، يثير الاستفزاز، فيما يعرف عن الجيش السوري النظامي علمانيته. من جهة أخرى، يضيف الشاب أن عمليات المنشقين تطاول في كثير من الأحيان جنوداً وعناصر أمن ليسوا في موقع اتخاذ القرار، بمعنى استهداف أشخاص على الحواجز الأمنية ليسوا سوى منفذين للأوامر، ما يدفع البلاد إلى مزيد من الانقسام.
وعن العلاقة بين المسلحين والعقيد المنشق رياض الأسعد من جهة، والسلطة التركية من جهة أخرى، يضيف عبد الله، أنه رغم تمركز الأسعد قرب الأراضي السورية على الجانب التركي، فإن حكام أنقرة يصرون على إبقاء دورهم محدوداً، ما دام المجتمع الدولي لم يحسم قراره العسكري ضد النظام. ولعل تراجع الدعم التركي للجيش الحر هو السبب، بحسب رأي عبد الله، الذي دفع رياض الأسعد إلى إطلاق تصريحات مدوية في الأسبوع الماضي، تدعو إلى شنّ هجمات على مؤسسات النظام، وهو دفع الكثيرين إلى توجيه أصابع الاتهام للجيش المنشق بتنفيذ التفجير الأخير في الميدان وسط دمشق. أما الناشط عبد الله أبازيد، فيشير الى دور محوري للجيش الحر، ولولاه لما استمرت الاحتجاجات، أو على الأقل حافظت على قوتها، وخصوصاً في المناطق المضطربة كما في حمص ودرعا وإدلب.
ويتابع أبازيد: «إن ضعف المؤسسة العسكرية للنظام، أفاد الثورة لجهة كثرة الانشقاقات التي نراها يومياً»، مشيراً إلى أن «الجيش الحر ليس له أي صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك الذي أغلق جميع صفحاته لكونها تدعم العمل المسلح، وهو أمر يعني أن العمليات التي تظهر باسمه ليست بالضرورة أن تكون صادقة، بالإضافة إلى أن انشقاق عدد من العسكريين أوجد نقمة عليهم؛ لأن النظام زاد البطش والقصف في تلك المناطق للقضاء على المنشقين. لكن رغم ذلك تبقى فوائده أكثر من سلبياته، وهو يتمتع بدعم بل حصانة شعبية، وهو ما نلاحظه بهتافات المتظاهرين».
كلام أبازيد يقابله رأي آخر للناشط رامز محمد؛ إذ يشير إلى أنه لم ير أي دور له على الأرض في دمشق، لأن التظاهرات في العاصمة لا يجري فيها أي نوع من أنواع الحراك المسلح. ويرى محمد «أنه إن كان هناك فعلاً جيش حر، فإن مهمته تتمثل في حماية التظاهرات والمدنيين فقط، فدوماً عندما يصبح القتل من طرفين يتصارعان على شيء ما، يبتعد الموضوع عن الثورة الشعبية، ومن غير المقبول استهداف حواجز أو مقارّ للأمن فيها أبرياء. لكن السؤال هو: هل الجيش الحر هو من يقوم بهذه العمليات، أم أن النظام هو من يقوم بها مستغلاً تصريحات رياض الأسعد الذي يقيم في بلاد الأتراك ولا يمون على أي مجند منشق في الداخل؟».
ويتابع الشاب المقيم في الميدان بقلب دمشق، قائلاً إن «نقاط القوة في الجيش تتمثل في ثقة الناس وتأييدهم له، وهو ما قد ينقلب فجأة إذا طال استهداف أي من أبنائهم الذين يؤدون الخدمة العسكرية، إضافة إلى أنه يعمل على طريقة الميليشيات التي تعتبر أصعب طريقة يواجهها الجيش النظامي غير المتدرب على حرب الشوارع، فيما تبدو نقاط الضعف في فرق ميزان القوى بينه وبين جيش النظام، إضافة إلى عدم تمويل أو دعم لوجستي جدي له». ويختم الشاب حديثه بالإشارة إلى «إصرار التنسيقيات على حشد التظاهرات المطالبة بالحظر الجوي والمنطقة العازلة»، معتبراً أنه ينقصها الكثير من الخبرة السياسية لتقدير أمور كثيرة كهذه، وخصوصاً مع الرفض الدولي لهذه الأفكار واضطرار بعض السياسيين إلى السير مع ما يقوله الشارع المحتقن بالأصل.



هل يخلف العميد أحمد الشيخ العقيد الأسعد؟


في أول حديث له بعد إعلان انشقاقه قبل أيام، قال العميد الركن مصطفى أحمد الشيخ (الصورة)، وهو أرفع ضابط سوري ينشق وينضم إلى صفوف المعارضة، إن ما يقرب من 20 ألف جندي، أغلبهم من السنّة، انشقوا عن الجيش، رغم الإجراءات الصارمة، لكن أكثرهم يحاول الإفلات من الوقوع في أيدي الشرطة السرية بدلاً من قتال قوات الأمن. ويمثّل ظهور ضابط أرفع رتبة من العقيد رياض الأسعد، ونجاحه في الوصول إلى تركيا، صراعاً جديداً على قيادة «الجيش السوري الحر». وفي تطور بارز مع إعلان «المجلس الوطني السوري»، في بيان أمس، أنه اتفق مع الجيش السوري الحر على تفعيل آلية التنسيق بينهما وتعزيزها، «بما يحقق خدمة أمثل للثورة السورية». ومن هذه الإجراءات إنشاء «مكتب ارتباط للمجلس الوطني لدى الجيش الحر بهدف التواصل المباشر» وإقامة «حلقات وبرامج للتوجيه السياسي للعسكريين».