دخلت أزمة الحكم في العراق مرحلة من اليأس المزمن يتهدد بإعادة خلط الأوراق، بما يعيد صياغة الخريطة السياسية في البلاد، حيث تبدو العجلة الاقتصادية (باستثناء النفط) على حافة التوقف نتيجة للنزعة الثأرية المتفاقمة لدى القوى السياسية من رئيس الحكومة نوري المالكي على تصلبه في عدد من الملفات، وبفعل التداعيات الطبيعية لاعتلال المناخ السياسي العام الذي يُعبَّر عنه بسوء العلاقات التي تجمع كبار رجالات الدولة، في وقت يرتفع فيه سقف التحديات المطروحة باطّراد، إن لناحية وضع حد للفساد المستشري في الإدارات، أو لناحية العلاقة غير السوية في ما بين الطوائف، أو حتى ضمن الفريق الواحد، وخاصة ما يعرف بالتحالف العراقي الموحد، أو لحسم بعض الملفات المتعلقة بأهل الحكم.
الهاشمي: الإعدام أم المنفى؟

مصادر عراقية معنية بملف نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، تؤكد أنه «متهم بنحو 150 قضية تفجير واغتيال وعملية إرهابية ملفاتها مُحكمة ومُثبتة بأدلة وبراهين وشهود»، مشيرة إلى أن طرف الخيط الذي أدى إلى التثبت من تورطه الشخصي بعمليات التخريب التقطته الأجهزة الأمنية العراقية الصيف الماضي. وقتها، وصلت معلومات تفيد بأن سيارة ستفخخ بعد منتصف الليل في مكان معين جرى دهمه واعتقال أفراد كانوا يصفّحون سيارة بعد تفخيخها، سرعان ما اعترفوا بأنهم يقومون بفعلتهم بأوامر ضابط عراقي. بعد ساعات، اعتُقل هذا الضابط الذي اعترف بأنه ينفذ أوامر صهر الهاشمي، أحمد قحطان. لم تمض أسابيع حتى جاءت فتاة عراقية لتبلغ أجهزة الأمن بأنها تقوم منذ مدة بزرع حقائب مفخخة لحساب الهاشمي. وأوضحت الفتاة، وهي من أهل البصرة، بحسب المصادر نفسها، أنها مجازة بالأدب الانكليزي وذهبت للعمل مدرّسة لإحدى بنات الهاشمي حيث قُبل طلبها. لكن سرعان ما قام قحطان ومجموعة من الرجال باغتصابها وتصوير عملية الاغتصاب وابتزازها وإجبارها على وضع حقائب في أماكن معينة سرعان ما كانت تنفجر. وقد راعها هذا الأمر، معتقدة أن الصهر يتصرف من دون علم الهاشمي، فتوجهت إلى هذا الأخير، من طريق ابنته لبنى، تشكو له ما يجري، فما كان منه إلا أن طيّب خاطرها وطمأنها إلى أن شيئاً لن يحصل لها ما دامت تنفذ تعليمات قحطان. عندها أدركت أنه الرأس المدبر. ولما كانت التفجيرات تستهدف الشيعة، لم تجد هي الشيعية مفراً من التوجه إلى الأجهزة الأمنية للإبلاغ عما يجري.
وتفيد المصادر نفسها بأن «ملف إدانة الهاشمي اكتمل ووضع في تصرف المالكي، قبل زيارة هذا الأخير للولايات المتحدة، لكنه تريث في تحريكه بانتظار خروج القوات الأميركية من العراق، كي لا تسبب خطوة كهذه إثارة المخاوف الأميركية مما سيكون عليه الوضع في بلاد الرافدين بعد الرحيل عنها».
أما بشأن مصير الهاشمي، فترى المصادر أن أمامه حلاً من اثنين: إما العودة إلى بغداد والخضوع لمحاكمة تعهد التحالف الوطني العراقي أن تكون نزيهة وأن يفصل في خلالها القضائي عن السياسي الذي ستُحل مشكلته في إطار مؤتمر المصالحة الوطنية. وإما أن يبقى خارج العراق، وهو خيار تراه الأفضل له؛ لكون الأدلة التي تدينه قوية بما يكفي لتضمن الحكم بإعدامه، مشيرة إلى أن الملفات الموجودة تطاول أكثر من زعيم من القائمة «العراقية» ستفتح ملفاتهم جميعاً كلٌّ في حينه. بالنسبة إلى صالح المطلك، الذي أُقصي بالتزامن مع إصدار مذكرة الاعتقال بحق الهاشمي، فبحسب مقربين من نائب رئيس مجلس الوزراء، يجري البحث عن دور له من خارج إطار نوري المالكي، مشيرة إلى أن «الاتجاه هو نحو تسميته نائباً لرئيس الجمهورية، ما يسمح له بالاحتفاظ بموقع رفيع المستوى في الدولة من دون أن تكون له أي علاقة مباشرة برئيس الحكومة، ما يحول دون الاحتكاك بينهما». ويضيف هؤلاء أن خطوة كهذه تنتظر المصالحة الوطنية التي يبدو أن البحث الجدي حولها مؤجل إلى ما بعد القمة العربية أواخر آذار.

علاوي يهدّد بالقمة العربية

أما في ما يتعلق بزعيم الكتلة «العراقية» إياد علاوي، فإن مصادر إقليمية معنية مباشرة بالملف العراقي تنعى مستقبله السياسي. هي ترى أنه «لم يستفد من أي من الدروس الماضية، ولا يزال مصراً على أن يُلدغ من الجحر نفسه كل مرّة». وتضيف أن «المالكي لن يعطيه شيئاً؛ لأنه يرى أن علاوي اختار دور العامل على إفشال العملية السياسية، متكئاً على بعض الدول الإقليمية كالسعودية، بعد ركونه إلى الوعود الأميركية». وتوضح أن «الأميركيين يوم كانوا ينشرون عشرات الآلاف من الجنود في العراق لم يتمكنوا من أن يعطوه شيئاً، فكيف يراهن عليهم بعد انسحابهم الذليل من البلاد؟». وتتابع: «لقد وضع بيضه كله في سلة السعودية. أخطأ في قراءة التطورات الإقليمية أكثر من مرة، وفرط بنفسه وبجماعته التي بدأت التصدعات تأكلها، وخاصة حركة الوفاق التي يتزعمها».
وتؤكد هذه المصادر أن «القائمة العراقية، التي تشرذمت إلى عدة قوائم، تبحث عن رئيس جديد لها»، مشيرة إلى أن «الحديث في الغرف المغلقة يشير إلى اتجاه نحو مبايعة أسامة النجيفي بهذا الموقع، مع تعبير واضح عن استياء عراقي إقليمي من تحريض علاوي على سوريا والرئيس بشار الأسد، وخاصة في إيران حيث التساؤل أن علاوي فعل ذلك مع نظام الأسد الذي تربطه به علاقة عمرها عشرات السنين، فكيف يضمن المسؤولون الإيرانيون وفاءه وصداقته».
وتكشف هذه المصادر عن أن بعض أركان «العراقية» تعهدوا لها في خلال الشهرين الماضيين أنه ستكون لها مواقف إيجابية من طهران، مشيرة إلى أن علاوي نفسه أبدى استعداده لزيارة العاصمة الإيرانية التي رفضت استقباله، آخذة عليه على وجه الخصوص مواقفه في الغرف المغلقة من سوريا. وتؤكد أوساط المالكي أن مؤتمر المصالحة الموعود لن يكون على ما يشتهي بعض أركان «العراقية»، الذين يطالبون بتطبيق اتفاق أربيل الذي أُلِّفَت الحكومة بناءً عليه، وأهم ما فيه بالنسبة إلى هؤلاء، أن يكون الحكم بالتوافق وأن يُستحدث منصب رئيس المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية العليا مع صلاحيات ويُعطى لعلاوي الذي يطالب أيضاً بأن يسمي هو وزير الدفاع.
وتوضح هذه الأوساط أن الملفات المطروحة على المصالحة ستشمل كل القضايا الخلافية من كركوك والأراضي المتنازع عليها إلى صلاحيات المركز والأقاليم إلى الدستور وتعديلاته إلى توزيع الثروات وسلطة بتّ العقود النفطية وما إلى ذلك من أمور عالقة.
ويقول مقربون من علاوي إنه يعطي الأطراف المعنية مهلة حتى نهاية هذا الشهر لإجراء المصالحة، وإلا فإنه سيطرح مطالبه على طاولة الزعماء العرب لدى اجتماعهم في بغداد في القمة المنتظرة.

النجيفي: زعامة واعدة

ويبدو أن النجيفي نفسه بات يشعر بأن علاوي قد أصبح عبئاً عليه. وهو يستعد، على ما يفيد مقربون منه، لقيادة القائمة العراقية في ظل قبول إقليمي له مشروط بترميم علاقته بالمالكي. وتشير مصادر إيرانية معنية بالملف العراقي إلى وجود ارتياح في طهران حيال النجيفي الذي «أثبت اعتداله وحرصه على العملية السياسية. مشكلته الوحيدة أنه لم يفصل بعد مساره كلياً عن مسار علاوي والبعض من أركان العراقية ممن هم قاب قوسين أو أدنى من الخروج من العملية السياسية». ولعل أبرز هؤلاء رافع العيساوي الذي يبدو انه أبرم اتفاقاً أولياً مع النجيفي لخوض المعركة الانتخابية المقبلة جنباً إلى جنب.

المالكي والتحديات الثلاثة

يبقى أبو إسراء، الذي تجمع الأطراف العراقية والإقليمية على أنه، إن أراد أن يبقى قوياً وأن يضمن عودته إلى كرسي رئاسة الحكومة لولاية ثالثة، عليه أن يتجاوز تحديات ثلاثة: الأول، علاقته غير السوية بالأطراف غير الشيعية. الثاني، مداواة العلاقة الشيعية الشيعية غير المستقرة. أما الثالث، فوضع حلول ناجعة ونهائية لمشكلات الإدارة والحكم، وخاصة لناحية الفساد حيث بات العراق يتصدر لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم ولا يسبقه فيها إلا الصومال.
وتشير هذه الأطراف إلى أن «على المالكي، بصفته الرقم واحد في الحكم، أن يكون الوعاء الكبير الذي يتسع للجميع، وأن يكون الراعي والحاضن لكل الأطراف والشخصيات من دون استثناءات، لا أن يتصرف على غرار ما يفعل أحياناً بطريقة كيدية وشخصانية»، لافتة إلى أنه على سبيل المثال يرفض الاجتماع بكل من علاوي والنجيفي ورئيس المجلس الأعلى العراقي عمّار الحكيم. مشكلته مع الأول معروفة. ومع الثاني أن أحدهم نقل إليه حديثاً مسيئاً إليه جاء على لسان النجيفي في أحد مجالسه الخاصة. أما المشكلة مع الثالث، فتبدو استمراراً لحراك المجلس الأعلى في خلال المفاوضات على تأليف الحكومة الحالية.
ومشكلة عدم التوازن في علاقات المالكي مع الزعامات السياسية الأخرى إنما تنعكس على عمل الحكومة وعملية إعادة الإعمار على ما جرى في خلال التصويت على موازنة الدولة أخيراً. لقد أصرت الكتل العراقية، نكاية بالمالكي، على عدم إمرار المادة 36 من الموازنة الخاصة بالمدفوعات الآجلة، ما أدى إلى توقف كل المشاريع الكبرى في البلاد بدءاً بالكهرباء، وصولاً إلى الطرق والمياه والصرف الصحي.

الخريطة الجديدة

تفيد المعلومات الواردة من بغداد بأن التوازنات الداخلية والحراك الإقليمي، مصحوبين بتصلّب المالكي، يدفعان المعادلة السياسية في العراق نحو خريطة جديدة، من معالمها اتجاه المجلس الأعلى الإسلامي إلى المباشرة بخطوات سرّية للتحالف مع النجيفي في الانتخابات المقبلة. كذلك الأمر بالنسبة إلى التيار الصدري، الذي يبدو حتى الآن متمسكاً بتحالف استراتيجي مع المالكي. لكن التيار إن لم يجد مقبولية لتحالف كهذا يُرجح أن يتجه نحو تشكيل حالة من بعض الأطراف. لكن في حال نجاح المالكي بتجاوز التحديات المشار إليها، فإن الحديث يجري حالياً عن أن التحالف الوطني سيخوض الانتخابات المقبلة بلائحتين: الأولى ثلاثية تضم منظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الفضيلة، فيما تضم الثانية حزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الأعلى، وإليهما لائحة كبيرة بزعامة أسامة النجيفي وأخرى كردية.



روسيا تعود للعراق من البوابة السورية


تفيد مصادر إقليمية قريبة من دمشق وبغداد وطهران بأن الموقف الروسي من الأزمة السورية لا ينبع فقط من مقاربة مبدئية تضع أمن دمشق كجزء من الأمن القومي الروسي، بل هناك مكافأة ضخمة لموسكو تحصنها من أي إغراءات مالية خليجية، ليست سوى عودة روسيا على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى العراق الذي أخرجت منه في عام 2003 بفعل الغزو الأميركي.
وتوضح المصادر، التي تشير إلى أن طهران أدت دوراً مركزياً في إرساء هذه المقايضة، أن رئيس الحكومة نوري «المالكي أبلغ القيادة الروسية قبل نحو شهر بأن موقفها من سوريا لا يُثمّن، وعليه نحن حاضرون لتلبية كل مطالبكم من العراق. بموقفكم هذا كسبتمونا نحن. لكن هذا المكسب يبقى مشروطاً بعدم إدخال أي تعديل على موقفكم من الأزمة السورية».
وتكشف هذه المصادر عن أن المالكي هو من أبلغ الأميركيين بهجرة عناصر «القاعدة» من العراق إلى سوريا، مشيرة إلى أن ذلك كان الخلفية التي استندت إليها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عند حديثها عن رفضها تسليح المعارضة السورية.